تقرير: مناشير قباطية.. ذهبٌ حاضر وبيئةٌ غائبة واحتجاج صامت!
قباطية/سوا/ ناقش تقرير أخير لمركز العمل التنموي/ معا واقع بلدة قباطية ( 6 كيلومترات جنوب جنين) والتي تحولت إلى منجم مفتوح، ويُسمي أغلب أهلها حجارتها بـ"الذهب الأبيض"، فالكتل والصخور التي تُقلع من أراضيها، وتُكسّر منشآتها، وتنشرها أو تعيد تشكيلها قرابة مائة ورشة ومنشار تترك آثارًا عديدة على الهواء والتربة، مثلما تدرّ أرباحًا وتوفّر فرص عمل، وتخلق آراءً متناقضة حول مخاطرها الصحية والبيئية.
التقرير المعد من قبل الصحفي عبد الباسط خلف يشير استناداً لرئيس بلدية قباطية محمود كميل الى حكاية الحجارة البيضاء، والتي بدأت منذ القرن الماضي في هذه الحرفة، وخلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الفائت شق الأهالي حرفتهم بطرق بدائية، ثم راحوا يستأجرون الجرافات الضخمة ( دي ناين) من حيفا، واليوم تطروت وبدأ عددها يقترب من المائة منشار إضافة إلى أربع كسارات ونحو 20 محجرًا (مقلعًا).
بيوت وغبار
ويعاني القاطنون حول المناشير جراء الغبار المنبعث منها، وبفعل الضجيج الذي تحدثه الآلات، يقول أيمن حمامدة (40 سنة): "أقمت منزلي قبل 12 سنة مقابل خلة اللوز، وكانت منطقة جميلة، ولكن اليوم صارت كلها بيضاء: الشجر، والطرقات، والنوافذ، والسيارات الواقفة في مداخل البيت."
يتابع:" في محيط المنزل كسارات أيضًا، ومناشير، ومجمعات للرمل، وساحات للحجر، ولا نستطيع فتح نوافذ المنزل في النهار، وعلينا تنظيفها بالماء مرتين في اليوم، ويتسلل الغبار إلى داخل بيوتنا، ولا نستطيع قطف ثمار التين والعنب والزيتون في محيط المنزل إلا بعد غسلها بالماء، وأُجبر بعض المزارعين على التنازل عن زيتونهم الأغبر."
يضطر حمامدة للخلاص من الأتربة والغبار في محيط مسكنه بشراء صهاريج كبيرة من الماء لتنظيفها، لكنها سرعان ما تعود إلى سيرتها الأولى، ويؤكد أن خياره الأخير: "بيع المسكن والرحيل إلى منطقة لا غبار ولا ضجيج فيها، فالتعايش مع هذا الوضع أمر مستحيل."
ويرى السائق محمد زكارنه، "بأن حل مشكلة مناشير بلدته أمر ملح، ولا يعقل أن يستمر هكذا، فسحب الغبار لا تُحتمل، وبقايا المخلفات تلوث الأراضي وتغير لون التراب، كما تحرّم المناشير على اصحاب بعض البيوت فتح نوافذهم".
لكن فاطمة نزال، وهي ربة بيت يعمل 3 من أولادها في الحجر تقول: "نستطيع العيش مع الغبار ببعض الوسائل كالتنظيف واستخدام المكيفات والمراوح خلال إغلاق النوافذ، لكننا لا نستطيع العيش بلا عمل، وحين يأتي الشتاء يغسل الأشجار والجدران".
فيما يقول الشبان عادل وأحمد وصالح، وهم يتحلقون حول طاولة واحدة في مقهى ببلدتهم الشهيرة بصناعة حجارتها ومقاهيها بعد يوم عمل شاق: "نعمل في المناشير، ولكل مهنة متاعبها، وقد تعودنا على ذلك، والأعمار بيد الله، والحجارة تعلمنا القوة والصبر، ولم نسمع إلا عن حادثين خطيرين للمناشير، وفاة عمال في السبعينيات بسبب انهيار الحجارة فوقهم، ووقوع حجر كبير على عامل قبل سنتين بفعل الأمطار والرياح أدى إلى موته، والغبار لا يُعطّل الحياة ونستطيع أن نتغلب عليه."
سواعد وصحة
من جهة ثانية، بدأ نضال خليل (40 عامًا) العمل في مناشير الحجر منذ عام 1989 يوم كان في الرابعة عشرة، وصار اليوم يدق الحجارة. يقول وسط سحابة بيضاء لشدة الغبار المنبعث من الصخور: " خلال العمل تتطاير قطع حجارة صغيرة وقد تصيب العين، ونعاني الديسك، لكن الدقّيق سيد نفسه، ويستريح متى يشاء، ولا نلبس الكمامات، ونأخذ الأجر مقابل كل متر مربع ننجزه، أما العمال في النشر والقص فيشتغلون بالساعة."
ووفق خليل، يحصل العامل العادي بين 15-25 شيقلاً لقاء كل ساعة. أما الستيني عبد القادر أبو الرب فيعمل منذ 10 سنوات في تطويع الحجارة، ولا يبالي كثيرًا بالغبار، ويتخلى عن وضع الكمامة الواقية؛ لأنها لا تتيح لصاحبها الحركة بحرية.
ويقول الثلاثيني حسن أبو إدريس إنه يعمل منذ 20 سنة في منشار حجر لكنه يتخذ إجراءات وقائية فيرتشف الحليب ويلبس الكمامات، ويسمع عن عمّال قدامى فقدوا جزءًا من عيونهم وسمعهم، أو تصلبت ظهورهم، أو تلفت رئاتهم. فالأعمال التي يقومون بها خطرة، وتكون على حساب الصحة لقاء البحث عن قوت الاسرة، ولا يمكن التنبؤ بمدى تدهور الصحة مستقبلاً للعامل.
وتوزع وزارة الصحة ونقابات العمل إرشادات للمشتغلين في المناشير كالحرص على الملابس الواقية، واستعمال الكمامات، وشرب الحليب يوميًا حرصًا على رئة سليمة، لكن شريحة من العاملين لا يلتزمون بها كحال محمد كميل؛ بدعوى أنها تشكل عائقًا وأن ما سيقع لن تغطي تكلفته شركات التأمين.
عمال وبيئة
يقول رئيس البلدية كميل: "تُعدّ المناشير ثروة محلية للبلدة، وتوفّر فرص تشغيل لنحو خمسة آلاف مواطن، وبدأت هذه المعامل في مناطق نائية عن البلدة، إلأ أن الأهالي صاروا يقيمون بيوتًا بجانبها، فأصبحت المناشير بين المساكن، وأخذ بعض المواطنين يتقدمون لنا بشكاوي لما تسببه من ضجيج وغبار وإزعاج."
يفيد: "قبل سنة ونصف عقد اجتماع في سلطة جودة البيئة ب رام الله ، ثم قدموا إلى البلدة وشاهدوا تأثيرات المناشير على المواطنين، ولمسوا الإزعاج، الذي يزداد خلال ساعات العمل الليلي خاصة في شهر رمضان كل عام. وبعدها، حاولت جهات رسمية في جنين تأسيس منطقة صناعية لتجميع هذه المعامل، لكنها اصطدمت بتكاليف النقل الباهظة، ولم تكن الجهود كبيرة للعمل".
ووفق رئيس البلدية، فإن الحل الآن مرهون بوضع ضوابط من "جودة البيئة" بالتعاون مع البلدية للتقليل من تداعيات الغبار، والتعامل مع مخلفات المناشير (الروبة). ويؤكد "أن الحل ليس بيد البلدية وحدها، بل مرهون بتوفر تمويل وبجهود جماعية للمؤسسات المختصة."
وتؤكد تقديرات محلية عدد سكان قباطية بنحو 30 ألف مواطن، "معظهم يعملون إما في الزراعة أو في قطاع الحجر أو التجارة أو الوظائف، لكن عددًا لا بأس به كما يقول كميل من هؤلاء يشتغلون في الحجر بين نشّير (يقص الحجارة)، ودقيّق ( يعيد تأهيلها لتناسب البناء)، وخريّط ( يُشكلها كأعمدة وأقواس وغيرها)، وسائق سيارة، وسائق رافعة شوكية، وميكانيكي، ومعظم مالكي المناشير يسكنون على مقربة من مشاغلهم."
متضررون ومستفيدون
يضيف: "المتضررون مستفيدون من مناشيرهم أيضاً، ونتعامل مع الشكاوي التي تصلنا، ونؤكد أن البلدية مع تنظيم هذه الصناعة، ولكن لا نطرح قضية إغلاقها، ونوازن بين مصالح الناس وصحتهم، ونتوافق مع نقل المناشير إلى منطقة صناعية خارج المخطط الهيكلي لبلدتنا، وهذا الأمر مرهون بتوفير ممول وبنية تحتية وتعاون المؤسسات، ولا يفكر أحدٌ في إغلاق هذه المنشآت؛ لأن ذلك سيؤدي إلى ثورة اجتماعية."
ويؤكد رئيس قسم الصحة بالبلدية أحمد كميل "أن المناشير غير حاصلة على رخصة من البلدية، لكن يجري ربطها بشبكتي المياه والكهرباء." ويقول:" يُشغّل كل منشار نحو 20 عائلة، وإذا ما تقدم المواطن بشكاوي ضدها، فإن المخالف يٌقدم إلى المحكمة، ويحكم أحيانًا بدفع غرامة بسيطة ( 10 أو 20 أو 100 دينار)، ونأمل أن تكون هناك خطة وطنية لحل الأزمة؛ لأن البلدية تعجز لوحدها عن توفير ذلك."
حلول مستقبلية
واستنادًا إلى رئيس قسم الهندسة في البلدية م. مهند شواهنة، فإن المخطط الهيكلي الحالي للبدية، والمقرّ منذ عام 1998 يبلغ 5917 دونماً، فيما تسعى البلدية إلى مخطط جديد بنحو 9000 دونم.
يقول: "المناشير بمعظمها في مناطق سكن (أ) و(ب) ومنطقة (أ) المستقبلية، ونراعي في التخطيط المخطط الفيزيائي لتجمع جنوب جنين( قباطية ومسلية والزبابدة)، على أرض قرب بلدة الزبابدة ومكان المستعمرة التي انسحب منها جيش الاحتلال، لكن الأمر بحاجة إلى قرار وتمويل، وحتى لو جرى تنفيذه فإنه يحتاج إلى 2 ميغا من التيار الكهربائي، وهذا ما سنعجز عن توفيره؛ لأن جنين كلها تحصل على 7 ميغا فقط."
وحسب شواهنة فإن المنطقة الصناعية في المخطط الهيكلي القديم أو الجديد المقترح لا تستوعب المناشير والكسارات والمقالع، بل تخصص للحرف والإنشاءات البسيطة، مثلما راعى المخطط القديم وضع 17 دونماً كمساحات خضراء.
شكاوي غائية
يفيد رئيس اتحاد صناعات الحجر والرخام أسامة كميل أن المناشير حصلت بمعظمها على ترخيص من سلطات الاحتلال قبل قدوم السلطة الوطنية، وكانت غالبيتها موجودة في مناطق نائية نسبيًا، لكن الأهالي صاروا يقتربون من هذه الورش.
ووفق أسامة كميل، فإن المناشير منتشرة في ثلاث مناطق: على طريق الزبابدة، وفي شارع الشهداء (المدخل الجنوبي لجنين)، وحول الجامعة العربية الأمريكية، وهي توفر فرص عمل مباشرة لنحو 1200 مواطن، ويحصل 4000 مواطن على عمل غير مباشر فيها كالسائقين والفنيين ودقيقي الحجارة.
يقول كميل:" لم نتلقَ شكاوٍ من الأهالي، ولا تتحمل هذه الورش مسؤولية (الروبة) التي ينقلها أصحاب صهاريج، ولا يتعاملون معها بشكل جيد. ونحن لا نعارض نقل المناشير، ونقف ضد إغلاقها، والنقل يحتاج إلى مانحين، وشبكات طرق وماء وكهرباء".
واستنادًا إلى رئيس اتحاد أصحاب صناعات الحجر والرخام، فإن تدخل جهات الاختصاص محصور في رقابة تعليمات السلامة المهنية، كالذي تفعله وزارة الصحة، كما استقبلوا في الماضي فريق أبحاث من جامعة النجاح لفحص أمراض التنفس بين العاملين.
يتابع كميل:" طبيعة عمل المناشير قاسية، فهي ليست متنزهات، وكلها غبار، لكننا لم نتلق أية شكوى ضد الورش، وعبر السنوات لم نسمع عن انتشار ظاهرة لمرض محدد يصيب العاملين فيها."
واقع وحل
لكن مدير سلطة جودة البيئة في جنين م. عبد المنعم شهاب يؤكد أن الشكاوى ضد المناشير قليلة، ويغيب المتقدمون بها عن متابعتها، ومعظم الشكاوي خاصة بالغبار والإزعاج.
يقول: "نتابع الشكاوي، ونكشف على المواقع، وسبق أن أجبرنا صاحب منشار داخل جنين على إقامة سور وغرس أشجار حول معمله، وخلال الشتاء تردنا شكاوى خاصةً بسبب مخلفات الروبة التي تخرج إلى الشارع الرئيس كما في طريق الشهداء، ولكننا نتابع معالجتها في برك خاصة ونعيد استخدامها، والبعض يتخلص منها بطرق مؤذية تضر بالأرض والزرع والمياه الجوفية".
ويرى شهاب بأن نقل المناشير إلى منطقة صناعية لا سكان فيها يتطلب تكلفة باهظة، كما أن المشكلة في تطبيق قانون الصحة الأردني، الذي يفرض غرامات قليلة ويغفل قانون البيئة الفلسطيني الصادر عام 1999.
يزيد:" سبق ان اقترحنا في الماضي حلولاً جذرية للمناشير كبناء سور مرتفع يفصلها عن الشوارع الرئيسة، وغرس أشجار حولها، وفتح طرق خلفية لها، لكن الأمر مكلف، ويحتاج إلى جهات لتطبيقه. وسبق أن طرحت دراسات لنقلها وتجميعها في منطقة صناعية، لكن ذلك لم يُنفّذ، بل جرى ربطها بالكهرباء وتثبيت موقعها الحالي بين البيوت."
ينهي شهاب: "نحتاج إلى تفعيل الرقابة، وتكثيف حملات التفتيش، وإعادة البحث عن بديل جذري في منطقة صناعية بعيدة عن الأهالي، ولا تسبب التلوث والإزعاج لهم."