إن الله عز وجل خلق الخلق كلهم وجعل نسلهم من أّبٍ واحد، وهوْ أدم عليه السلام ومن أمٍ واحدة، وهي حواء أمُنا جميعًا، وخلقنا الله جل جلاله، من نفسٍ واحدة، وإننا في كتاب الله الخالد القرآن الكريم نقرأ سبعة عشر مرة يومياً في الفريضة من سورة الفاتحة قوله تعالي: "اهدنا الصراط المستقيم"، ولم يقُل الله عز وجل في القرآن العظيم (اهدني) الصراط المستقيم، وهذا إن دل يدل علي أن الرسالة الخالدة للبشرية جمعاء تتمني الهداية للعالمين الإنس والجن، ولكل العالم، وللأمم والشعوب وللمجتمعات حتي الوصول لُلأسرة والفرد؛؛ إذن دعوة أخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم كانت رسالة عالمية، قال تعالي:" وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"، حملت في طياتها ثقافة الأخلاق النبيلة والقيم العليا والفضيلة، ودعت لتعزيز مبدأ حوار؛ فهي دعوة حضارية ربانية راقية ورائعة بامتياز، لأنها تتمني الخير والهداية ليست للمصلي المسلم فقط، بل للجميع، وتأمر المسلم بالدعوة للهداية للعالمين لكل الناس علي اختلاف مشاربهم وألوانهم، ودياناتهم، كما تآمر المصلي نفسه بأن يثبته الله ويهديه الطريق المستقيم، طريق المؤمنين الموحدين، ومن أجل ذلك أرسل النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل واختار أجملهم شكلاً، وحكمةً، وأكثرهم ثقافةً، وعلماً وقدرة علي الحوار، أمثال الصحابي الجليل: مصعب بن عمير رضي الله عنه ليبلغوا من خلال الحوار القياصرة والأباطرة والملوك والسلاطين ودعوتهم بالحكمة الموعظة الحسنة ومجادلتهم بالتي هي أحسن، في كل بقاع المعمورة، وفي هذا دعوة ثقافية حضارية فيها تلاقي للحضارات لأن الديانات الثلاثة لم تأتي لسفك الدماء!! بل جاءت الكتب المقدسة الثلاثة الإنجيل، والتوراة، والقرآن، لتخرج الناس من الظلمات إلي النور من الظلال والظلم إلي نور الهداية والعدل، ومن عبادة الأوثان والعباد إلي عباده الواحد الأحد الديان، الذي لا ند له ولا شبيه ولا مثيل وهو الله جل جلاله الواحد الأحد الفرد الصمد، ورسالة الأنبياء جميعهم واحدة، وهم إخوة، ومثال ذلك أن النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم حينما أذوه أهل الطائف ودعوا سفائهم، فقدفوه بالحجارة حتي سالت الدماء من قدميه، فأنزل الله له جبريل لعيه السلام ومعه ملك الجبال وقال له يا محمد: مُرني لو شأت أطبقتُ عليهم الأخشبين، أي "الجبلين"، فقلا له النبي الكريم لا؛ ثم قال: عسي الله أن يُخرج من اصلابهم لا اله الا الله؛ فكان يحمل فكر الرحمة للأمة، وكانت ثقافة النبي صلى الله عليه وسلم التسامح وفن الحوار والدفع بالتي هي أحسن، ومقابلة الأذى والاساءة بالعفو والاحسان وكانت قصتهُ صلى الله عليه وسلم، مع الغُلام : (عداس النصراني)، الذي قدم للنبي قُطفًا من العنب بعد ما لقي في الطائف من الأذى!!؛ ووضع عداس العنب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له : كُّل: فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه يده ليأكل العنب، قال: باسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد!، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك ؟ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؛ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله: ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقبل رأسه ويديه وقدميه، وهذا دليل من خاتم النبيين، علي أن الانبياء جميعهم إخوة، وأنهم جاؤوا جميعًا للبشرية برسالة واحدة هي الاسلام وبه يتحقق السلام والمحبة للعالم أجمع، وهي رسالة الإسلام والتوحيد الخالص لله عز وجل، وهذا يدلل علي أهمية تعزيز مكانة وثقافة الحوار بين الناس أجمعين، وبين جميع الديانات، لأنه لا مفاضلة بين الخلق علي أساس عرقي أو الجنس أو اللون، إنما المفاضلة بالتقوي وبعمل الخيرات والصالحات، وفي هذا أنزل الله عز وجل قرآنًا يتلي إلي يوم القيامة، فقال سبحانهُ وتعالي: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثي وجعلناكم شعُوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"؛ فالأساس في المفاضلة بين الناس بالتقوي.
أن المقصود بكلمة الحوار كما جاء في لسان العرب، الحوار هو الرّجوع، و هم يتحاورون أي يتراجعون الكلام، كما أن التّحاور يعني التجاوب و المجاوبة، و الحوار هو الرجوع عن الشيّء وإلي الشّيء، ويؤكّد هذا ما ورد في القرآن الكريم، ففي سورة الكهف نلاحظ أنّ فعل «يحاوره» تكرّر مرّتين، يقول تعالي: (وَ كَانَ لَهُ ثُمُرّ فَقَالَ لِصَاحِبِه وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أنَا أكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَ أَعَزُّ نَفَرَا) (الكهف: 43)، وقوله تعالي أيضا: (قَالَ لَهُ صآحِبُهُ وَ هُوَ يُحَاوِرُهُ أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف: 37)، وكلمة الحوار كلمة دخلت قاموس العلاقات بين الأديان و المذاهب حديثا، ممّا يدلّ علي جدّة هذا المفهوم و حداثته أنّ المواثيق و العهود الدّوليّة التي صدرت بعد نشوء منظّمة الأمم المتّحدة لم تُشر الي هذا اللّفظ، وأن أشارت الي ألفاظ أخري ترمي إلي نفس الغرض الذي يرمي اليه لفظ الحوار، مثل التّسامح، والتّعايش و التّعاون ممّا يدلّ علي أنّ لفظ الحوار له مدلول سياسيّ وثقافيّ وحضاريّ أكثر منه قانونيّ؛ ولذلك فإن موضوع حوار الحضارات أمر ذو أهمية قصوي؛ فقد كان مجرد فكرة، في العصر الحديث أّثارهُ العالم والمفكر الفرنسي(روجيه جارودي)، الذي أعلن فيما بعد إسلامهُ وعبر عن نظريته الرائدة ومشروعه للجمع بين الحضارات المختلفة على أساس أرضية مشتركة للتفاهم على مستوى شعوب الأرض وسماه: بـ' حوار الحضارات '، وفكرة حوار الثقافات محاولة من أجل التفاهم بغية دحض التصادم بين الحضارات وبين البشر؛ من خلال عقد العديد من المؤتمرات والجمعيات والمؤسسات الداعية لترسيخ سياسة الحوار والتفاهم والتعايش السلمي، بدلا من الصدام، وقد تبني العديد من الكتاب هذه النظرية ودعوا إلى تنمية الحوار بين العالم الإسلامي والغرب حتى يمكن لكل طرف أن يتفهم الآخر ويتعايش معه وقد حددت الأمم المتحدة عام 2001م، عاماً لحوار الحضارات وعينت مندوبًا متخصصًا لهذا المنصب؛ وكذلك تبنت منظمة اليونسكو للثقافة والفنون القرار، فلم يخلق الناس على نوع واحد أو فصيلة واحدة، بل خلقوا متنوعين مختلفين، وهذه هي سنة الحياة، قال تعالي: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، فاختلافهم لم يكن في زاوية واحدة فقط، بل امتد ليشمل زوايا أخرى متعددة كثيرة، حيث أنهم مختلفون في اللون والعرق والدين والفكر والمعتقد والعادات والتقاليد وأسلوب التفكير ونمط الحياة ومكان العيش واللغة واللهجة لأصحاب اللغة الواحدة وأسلوب تعبيرهم عن مشاعرهم تبعاً للثقافة السائدة في المجتمع الذي يعيشون فيه، كل هذه الأمور أسهمت وبشكل كبير جداً في تنوع واختلاف الناس وفي تجمعهم مع بعضهم البعض، كل بحسب أكبر قدر من العلاقات المشتركة بينهم. وقد يحدث وأن تصطدم هذه المجتمعات مع بعضها البعض وبشكل كبير قد يؤدي إلى إزهاق الكثير من الأرواح في أوقات مختلفة كما حدث ويحدث دائماً، نتيجة عدم احترام الاختلافات الموجودة بين الناس، وقلة الاحترام هذه ليست حكراً على جماعة من الناس دون الجماعة الأخرى، بل هي ممتدة وبشكل كبير جداً لتشمل جميع الناس على اختلافاتهم وأجناسهم وأعراقهم، فكم حدثت من حروب راح ضحيتها الملايين من الناس نتيجة التسلط والغطرسة، والتكبر وعدم احترام الآخر؛ لذا وفي وقت صعب كالأوقات التي مر العالم بها في القرن المنصرم ولا يزال يمر فيها!، كان لزاماً أن يتم خلق مفاهيم جديدة، تؤدي إلى التقليل من حدة كل التوترات التي خلقها المتعصبون، والمتفيهقون، وأصحاب النفسيات الدنيئة والطماعون، حتى ينعم العالم بالسلام والهدوء والراحة؛ فتأتي ثقافةِ حوار الحضارات من أجل إدامة التشاور والتفاعل بين الأممِ والشعوب، والقدرة على قبول كافة الأفكار الجديدة بدون التعصبات التي دمرت العالم، وسببت الحروب والدمار والخراب بسبب غياب ثقافة الحوار، وظهور فكر متطرف كالصهيونية والإمبريالية والفاشية، تلك الأفكار النازية المتطرفة تسببت بقتل ملايين البشر في الحرب العالمية الأولي والثانية، وفي الربيع الدموي العربي الذي خرج لنا بفكر داعشي تسببت به الإدارة الأمريكية اليمينية المتصهينة صاحبة فكرة الفوضى الخلاقة، والشرق أوسط الجديد ومن لف لفيفها، والتي تسببت بمقتل ما يزيد عن مليون ونصف عراقي وتدمير سوريا وليبيا وتشريد أهلها، فيما لا يزال الكثير من الدول العربية تعاني اليوم من الدمار والقتل لغياب ثقافة الحوار!!!؛ بسبب التطرف الفكري، والتعصب المذهبي والطائفي والقومي والوطني الخ!؛ فسواء كانت هذه الأفكار دينية أم سياسية أم ثقافية أم اجتماعية أم اقتصادية وما إلى ذلك؛ بالرغم مما سبق من ألام!، لكننا بحاجة ماسة اليوم لتعميم ثقافة الحوار مع الأخر، وإضافة ذلك في مناهجنا التعليمية العربية كمساق علمي يُدرس في المدارس والجامعات؛ لأنه حوار الحضارات يهدف أن يكون هناك تنسيق وتفاعل مشترك بين الحضارات كافة والثقافات والأمم المختلفة في كافة المجالات وفي كافة شؤون ومناحي الحياة، الدينية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، حيث أن التفاعل الكبير بين الحضارات يعمل على التقليل من المنغصات والاختلافات والتعصبات الجاهلية، التي تسببت في قديم الزمان إلي حرب ضروس استمرت أربعون سنةً بين قبيلتي (داعس والغبراء)، بسبب غياب ثقافة الحوار فيما بينهم!؛ وما جرى في العالم من حروب عالمية وحروب دينية وعمليات تطهير عرقية وما إلى ذلك، ما هو إلا نتيجة البعد الشاسع بين الناس عن ثقافة الحوار، وعدم احترامهم لبعضهم البعض، وتعصبهم الأعمى لأوطانهم؛ وهذا يدلل بأننا بحاجة ماسة لتعزيز وتنمية مفهوم ثقافة الحوار، لأنه يشكّل ضرورة من ضرورات العصر من أجل التّغلّب علي العديد من المشاكل علي مختلف الأصعدة، لأن الحوار بالتي هي أحسن يُعدُّ أمرًا ضروريًا وملحًا في كافة الميادين نظرًا لطبيعة التّحولّات التي طرأت علي العالم كلهِ، حتّي يسود الأمنُ والسّلام، ويتم التوافق حول قيم إنسانية مشتركة في الحوار مثل التسامح، والتلاقي الفكري، والبعد عن التعصب، لأنهُ لن يكون هناك سلام بين الأمم و الشّعوب ما لم يكن هناك سلام بين الثّقافات و الحضارات، ولن يكون سلام بين الحضارات ما لم يكن هناك حوار بينها، و علي هذا الأساس فانّ الحوار هو السبيل الي بلوغ الهدف المنشود للوصول بالإنسانية إلي برّ الأمان، من أجل بناء جسور التلاقي بين الشعوب؛ لأن التّعايش ضروريّا بين الحضارات و الثّقافات، وتعزيز ثقافة الحوار بالدفع بالتي هي أحسن، وكما كان منهج النبي في الحوار دفع السيئة بالحسنة، ولنتعلم من سيرته النبوية العطرة حيث أنه طوال حياته لم يقابل السيئة بالسيئة، بل كان يقابل الخطأ بالتي هي أحسن، ولا يغضب لنفسه أبدًا، وكان حواره مع الكفار والأعداء ثقافة الرحمة والرأفة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه مرت به جنازة: فقام لها النبي - فقيل له: إنها جنازة يهودي؟: فقال أليست نفساً )، فما أحوجنا اليوم لتعزيز ثقافة أخلاق الحوار النبوي، من خلال فكر المحبة والتسامح والقيم والفضيلة ونشرها بين كل الأمم والشعوب، حيث دخل العديد من الأمم والشعوب الإسلام بالدعوة والحوار وبأخلاق نبي الإسلام وليس بالسيف، لذلك سيعود الإسلام غريبًا، كما بدا غريباً، ومما أتوقعه مع حلول عام 2022م أن تصبح أوروبا مسلمة والمسلمين هم الأغلبية، وهذا من خلال ثقافة الحوار التي تقوم علي مبدأ الرحمة والعدل، والتسامح والتصافح والسلام، والتسامي علي الجراح، والدفع بالتي هي أحسن، وتعزيز لغة المنطق والحوار، بالحكمة والموعظة الحسنة وبالأخلاق الحسنة، ومن خلال القيم والمثُل العليا وعبر الاقتداء بسيرة سيد الأنبياء والمرسلين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية