273-TRIAL-يتهامس الكثير من المثقفين الإسلاميين حول ضرورة أن تتحرك حركة حماس والتيارات الإسلامية والوطنية التي تلتقي معها نضالياً من خلال واجهة حزبية، وعنوان سياسي واضح المعالم والأهداف، وأنه لا بدَّ أن تراجع حركة حماس موقفها الرافض لفكرة العمل من خلال حزب سياسي؛ لأن التجربة السياسية التي مرت بها الحركة في السنوات الثمانية الماضية، والتي سخَّرت من خلالها كل إمكانيات الحركة وطاقاتها الدعوية والتربوية قد أثرت بشكل سلبي على شعبيتها ومكانتها في قيادة الشارع الفلسطيني، كما أن انشغال جميع قياداتها وكوادرها بمشهد الحكم والسياسة قد أضعف من إمامتها، وما كانت عليه من علياء بصدارة الحراك الديني، عبر إدارتها لشئون المساجد والأنشطة الدعوية والتربية الواسعة.

قد يأخذ هذا الهمس طريقه في الشهور القادمة ليصبح خطاباً تتداوله مجالس الحركة ومنتدياتها، باعتباره ممراً إجبارياً للوصول إلى ساحة الفعل السياسي والعمل الجماهيري، وخياراً أفضل للخلاص من "ورطة الحكم"، ذات الكلفة العالية لشعبٍ تحت الاحتلال، ولا يحرج الحركة أو يخرجها بالكلية من دائرة العمل السياسي، حيث إن كل ما يتطلبه الأمر هو توظيف جزء من طاقاتها، ولن يشكل كلفة أخلاقية عالية عليها أو عبئاً مالياً باهظاً يثقل كاهلها.

ومن الجدير ذكره، أن هناك تجربة حزب الخلاص الوطني الإسلامي، والتي ما تزال ماثلة في أذهان الكثير من الإسلاميين، والتي قد تصلح لمعاودة العمل من خلالها، باعتبار أن الحزب قد تمَّ تجميده فقط، ولم يتم حله قانونياً، وترخيصه مازال سارياً في وزارة الداخلية.. وحتى يتمكن الحزب من المنافسة في الانتخابات التشريعية القادمة، فإن كل ما عليه هو تقديم وجوه مقبولة داخل الشارع الفلسطيني، وتحظى باحترام الكل الوطني والإسلامي، وأن يجد إخواننا المسيحيين لهم مكاناً فيه، بعد إجراء تعديلٍ على الاسم ليصبح حزب الخلاص الوطني.

سنحاول هنا التعريف بحزب الخلاص، والقاء الضوء على تجربته السياسية بعد تأسيسه، والإشارة للظروف التي انطلق فيها الحزب وأليات عمله، ولماذا قررت الحركة أن تضرب الذكر عنه صفحاً، وأن تُطوى أشرعته، ولماذا مطلوب اليوم أن نضع قضية الحزب للدراسة والبحث، فلعله يمثل خشبة الخلاص وطوق النجاة لما يفكر فيه البعض للاستمرار داخل حلبة العمل السياسي، وذلك للدفاع عن ثوابت القضية وحماية المقاومة، والحفاظ على حق شعبنا في تقرير مصيره، وإنجاز مشروعه في التحرير والعودة.

حزب الخلاص: رواية لم تكتمل فصولها

إن تجربة حزب الخلاص لم تغب بعد عن ذاكرة كل من شاركوا أو عايشوا أو راقبوا تلك التجربة.. صحيحٌ، أن الحزب لا زال له اسم يُذكر على صحيفة (الرسالة)؛ أحد المنابر الإعلامية لحركة حماس، لكنَّه في الواقع هو جسدٌ سياسي مسجَّى منذ أكثر من خمسة عشر سنة؛ أي في حالة "موت سريري"، بدون فعاليات أو أثر.

إن هناك الكثير من الإسلاميين الذين مازالوا يحملون ذكريات عزيزة لحزب الخلاص، فهذا د. عطاالله أبو السبح؛ أحد قيادات حركة حماس، يرد على من حاولوا التشكيك بنشأة الحزب، بالقول: "هذا الحزب كان ابناً شرعياً للحركة، ونحن كُنَّا لحمة الحركة وسُداتها"، كما أن هناك من كان لديهم الحماس الشديد للفكرة، ولكن ربما هناك – اليوم - القليل الذي يُبدي مثل هذا الحماس، وخاصة بعد أن اتخذت الحركة قراراً عام 2000م بتصفية الحزب، وإحالته – عملياً – للتقاعد المبكر.!!

اليوم، وبعد أن خاضت حركة حماس في يناير 2006م تجربة العمل السياسي تحت اسم "كتلة التغيير والإصلاح"، وكان نجاحها في الانتخابات هو البوابة الرسمية للحكم، والدخول الرسمي إلى معترك العمل السياسي، والانفتاح على التعددية السياسية وعملية التداول السلمي للسلطة، الأمر الذي فرض عناوين جديدة للتنافس السياسي، يتوجب على الجميع الاستعداد لها في أية انتخابات تشريعية ورئاسية قادمة.

إن تجربة حزب الخلاص منذ نشأته عام 1996م، مثلت في الإطار العام منظومة ناضجة لشكل الحكم، من حيث الرؤية الفكرية والبرنامج السياسي، فإننا نرى أن من المصلحة تقتضي الرجوع لتلك التجربة لاستقرائها من جديد، والتعرف على جوهر ما كانت تحمله من أفكار، وما تمثله من رؤية وآليات عمل، ربما تفرض الحاجة - قريباً - معاودة النظر إليها والأخذ بها.

حزب الخلاص: الفكرة والرؤية والإطار

إن جمهوراً عريضاً داخل ساحتنا الإسلامية والوطنية لا يعرفون الكثير عن حزب الخلاص؛ من حيث جوهر الفكرة والهدف.. ولذلك، ارتأينا أن نصطحب معنا للحديث عن الحزب وأفكاره النائب يحي موسى؛ الأمين العام السابق لحزب الخلاص، والذي قاد الحزب بقوة وهمة ونشاط، وكان من أكثر من منحوه – آنذاك - حضوراً سياسياً، وكان - بحق - من أكثر المدافعين عن أهمية وجوده، وفعالية دوره، وضرورة استمراره كعنوان إسلامي برؤية وطنية جامعة.

في رحلة الذكريات تلك، نمضي مع النائب يحيى موسى (أبو أنس) في جولة استكشافية لأعماق الفكرة التي قام عليها الحزب، ومساحات العمل التي انخرطت فيها قياداته وكوادره، ومجمل الرؤية التي كانت تشكل نوابض الحزب وفلسفته الوطنية.

يتحدث الأخ (أبو أنس) قائلاً: إن فكرة تأسيس حركة حماس لحزب سياسي في المناطق التي ستقوم عليها سلطة الحكم الذاتي، جاءت نتاج توافق عام في أوساط حركة حماس، شارك فيها الداخل والخارج والسجون، وكانت بقرار سليم تمَّ اتخاذه داخل مؤسسات الحركة الشورية والتنفيذية.

لقد تأسس الحزب بعد نقاشات مطولة، ودراسات مستفيضة، كاستجابة واقعية وعملية، وكمشروع مرحلي بهدف التعامل مع المستجدات السياسية التي أعقبت التوقيع على اتفاقيات أوسلو، والتي لم تكن معالمها قد اتضحت بعد، وكان من الصعب التنبؤ بتأثيراتها المحتملة – آنذاك - على مشروع الحركة، خاصة في شقه العسكري والأمني، مما استلزم التعجيل بتأسيس حزب سياسي، يعمل كحزب رسمي وبفعاليات علنية وبشكل سلمي، ويتبنى برنامج سياسي واجتماعي واقعي، يشغل المساحة التي قد تتأثر بعودة حركة حماس وجناحها العسكري للعمل السري، نتيجة الظروف الأمنية التي استجدت بتوقيع اتفاقيات أوسلو، والتي كانت التوقعات تشي بأن السلطة لن تسمح للحركة بالعمل إذا ما أصرت على مواصلة عملياتها العسكرية.

كما أن الحركة كانت ترى في الحزب مظلتها الآمنة، والبيت الذي سوف تستظل بظله العناصر التي تتطلع لظروف عمل بعيدة عن متطلبات "ذات الشوكة" بكلفتها  العالية، خاصة وأن تحديات العمل العسكري لعناصر المقاومة ستكون كبيرة، حيث ستشهد مناطق السلطة تنسيقاً أمنياً واسعاً مع الاحتلال .

في الحقيقة، كان تأسيس الحزب، كمشروع وطني جامع، من فتح على جماهير الشعب الفلسطيني، وكان حرص القائمين عليه أن يكون مشروعاً متصالحاً مع جميع مكونات المجتمع الفلسطيني، وأن يمثل جسراً للتوافق الوطني والشراكة السياسية، وأن يبني جسوراً للمصالحة بين الفكر الإسلامي الوطني والأفكار الوطنية؛ الليبرالية واليسارية.

 لقد كان الهدف من وراء قيام الحزب – كما أشار د. يحيى موسى - أن يكون منارةً للحريات العامة وحقوق الإنسان، وأن يرعى تقديم الخدمة العامة في المجتمع الفلسطيني، وأن يُقدِّم الإسلام باعتداليته ووسطيته، وتكريمه للإنسان، وتحريره للمرأة، وحفاظه على القيم العامة، مع أطلاقه لحرية الفكر والتميز والإبداع.

لقد كنا نُقدِّم الحزب باعتباره حاملاً لقيم الديمقراطية، وحارساً للتداول السلمي للسلطة والشراكة الوطنية، وحامياً لقيم العدل والمساواة والمواطنة.

أما فيما يتعلق بعلاقة الحزب بحركة حماس، فقد أراد المؤسسون للحزب أن يعمل بالتوازي مع الحركة؛ أي ليس بديلاً عنها، ولا يصل لدرجة التغول عليها، وأن لا يتعارض برنامجه مع برنامجها، وأن ينسق مع الحركة في كل قراراته الاستراتيجية.. وعليه، فقد وضع الحزب لنفسه برنامجاً سياسياً واجتماعياً، وتم عرضه على مؤسسات حركة حماس، وتمَّ أخذ الموافقة على جميع بنود البرنامج ومكوناته، كلمة كلمة، وجملة جملة، وفقرة فقرة، فأصبح البرنامج السياسي بذلك هو الناظم، وهو الحكم، وهو الضابط لمواقف الحزب وقراراته وسياساته العامة.

إن رسالة حزب الخلاص الوطني الإسلامي الأساسية والتي عمل مؤسسو الحزب – بحرص وأمانة - من أجل تحقيقها، كانت تتلخص بالدرجة الأولى في الحفاظ على المجتمع الفلسطيني كحاضنة للمقاومة الإسلامية، وذلك بالحفاظ على هويته وحمايتها من التفكك والذوبان، وكذلك حماية الحريات العامة وحقوق المواطنين في وجه أي تجاوزات لأجهزة السلطة الأمنية الجديدة الناشئة، والعمل على إعلاء صوت المعارضة - بشكل سلمي - لاتفاقيات أوسلو، ومقاومة كافة أشكال الفساد السياسي والإداري والمالي، والحفاظ على منظومة القيم والمبادئ الوطنية، والتمكين لروح المقاومة أن تسود، وإذكاء مشاعر العداء والكراهية للكيان الإسرائيلي الغاصب.

وفي سبيل ذلك، اعتمد الحزب استراتيجية صناعة اصطفاف وطني مع القوى الليبرالية واليسارية والقومية والوطنية، فكان من المؤسسين الأوائل لهيئة التنسيق للقوى الوطنية والإسلامية، والتي لعبت دوراً نشطاً في تنسيق المواقف والسياسات، وحققت نوعاً من التقارب والانسجام داخل الجماعة الوطنية الفلسطينية.

كما حرص الحزب على كشف اللثام، وإظهار الخلل والفساد في بنية سلطة الحكم الذاتي؛ السياسية والإدارية والمالية، وذلك عن طريق إعلام الحزب النشط والمتميز والجريء، والذي تمكن على مدار السنوات الأربع من عام 1996 حتى 2000م، من بناء معارضة قوية للسلطة، مما أضعف من شعبيتها، وأسهم في تحضير الساحة الفلسطينية لاندلاع انتفاضة الأقصى المباركة.

لقد حرصت قيادة الحزب على بناء مؤسسة شورية، تقوم على التداول القيادي، فحدد النظام الأساسي للحزب المدة القصوى التي يتولاها الأمين العام للحزب بدورتين انتخابيتين، وبمدة لا تتجاوز الأربع سنوات، كما حرصت قيادة الحزب على البناء المؤسسي، فكانت السلطة داخل الحزب تتوزع بشكل متساوٍ بين ثلاث مؤسسات أساسية؛ هي المؤسسة القضائية، والمؤسسة التنفيذية، والمؤسسة التشريعية، وكل واحدة من هذه المؤسسات يتم اختيار قيادتها بالانتخاب المباشر من المؤتمر العام للحزب، وهكذا تمَّ تحصين الحزب حتى لا يستبد مكتبه السياسي في الإدارة وفرض المواقف.

كما حرص الحزب على إفساح مكانة متقدمة للمرأة، فتبنى نظام "الكوتا" النسائية، وبما لا يقل عن 20% للنساء،  كحق في شغل جميع المواقع القيادية، بدءاً بالمكتب السياسي، حيث كان للأخوات أكثر من عضو داخل المكتب السياسي، وما لا يقل عن 15 عضو لمجلس الشورى المكون من 51 عضو، وحوالي 50 عضو ممثلين في المؤتمر العام للحزب من أصل 250 عضو.

وقد جعلت لوائح الحزب جميع الأعضاء متساوون في الحقوق والواجبات، وكذلك في فرص الترشح لشغل المناصب القيادية.

لقد عرض الأخ أبو عمار – رحمه الله - عام 1998م على الحزب المشاركة في الحكومة الفلسطينية بثلاث وزارات، ولكن الحزب رفض ذلك العرض؛ لأنه كان حريصاً على البقاء في صف المعارضة لاتفاقيات أوسلو أو أية توجهات للسلطة يرى فيها انحرافاً عن الخط الوطني العام.

تقدم الحزب بطلب الانضمام إلى مؤسسات م.ت.ف، وتمَّت الموافقة على طلبه، وللحزب ممثلين في المجلس المركزي، وفي المجلس الوطني الفلسطيني، وهذه العضوية تسببت بأزمة في العلاقة بين حزب الخلاص وحركة حماس عام 1999م، واستمرت تلك الأزمة قرابة العام، وانتهت بحل حزب الخلاص الوطني عام 2000م، وعودة عناصره  للعمل في صفوف حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وتمَّ إغلاق مقراته، وتسريح العاملين فيه، ولم يتبق من الحزب إلا صحيفة (الرسالة)، والتي لا زالت تُذَّيل إصداراتها بعبارة: "تصدر عن حزب الخلاص الوطني الإسلامي".

حزب الخلاص: العلاقة مع الآخر الوطني

وحول طبيعة العلاقة بين حزب الخلاص والقوى الإسلامية والوطنية الأخرى، أجاب د. يحي موسى قائلاً: إن الحزب كانت له  فلسفة خاصة في هذه العلاقة، وأن هذه الفلسفة ترتكز إلى أن المجتمع الفلسطيني الجديد الناشئ يمثل تحولاً عن مجتمع ثوري، كانت تمثله منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي حتى تتحول إلى مجتمع أساسه مدني وحكم مدني، واحترام لحقوق القانون، واحترام لحقوق الإنسان، والتعامل وفق ما هو متاح من آفاق محدودة من التعددية السياسية في هذا المجتمع.. لم يكن الأمر سهلاً، وإنما كان يحتاج إلى انتزاعه من خلال نوع من التحالف، ونوع من التعامل مع القوى السياسية كلها في داخل الساحة، وبذلك كنا نتطلع إلى بناء علاقات قوية مع القوى الفلسطينية والإسلامية المختلفة، فكنا نوجه صورة تعامل مع كل أطراف الطيف الفلسطيني؛ سواء كانوا من اليسار أو من اليمين، سواء كانوا قومين أو وطنيين، مهما كان انطلاقة أو أن نبحث دائماً على القاسم المشترك، وكان ذلك متفقاً – أيضاً - مع فلسفة الحزب، المنطلقة من سياسة البحث عن "القاسم المشترك"، وتغليبه في علاقاتنا مع  القوى السياسية، ومحاولة التعالي دائماً عن حزبياتنا الضيقة، لأننا جميعاً نمر بمرحلة حرجة؛ فلا هي مرحلة بناء وطني، ولا هي وضعية تحرير وطني.. نحن محتاجون إلى بعضنا البعض فيما يتعلق ببناء مجتمع مدني، ونحن أيضاً بأمس الحاجة إلى وحدتنا العامة فيما يتعلق بالتصدي للاحتلال.. هذا الأمر لم يكن بالأمر السهل، فكان الحزب عامل أساسي في جمع هذه القوى السياسية، ودعوتها للالتقاء والتعاون حول قضايا مشتركة.. لذلك، كانت علاقتنا مع كل القوى السياسية علاقة طيبة، حتى أنه في جلسات الحوار الوطني التي انعقدت في عام 1998م تقريباً في مقر النقابات العمالية في غزة ، كانت بعض القوى السياسية تطرح في أوراقها بأن تكون أوراق حزب الخلاص هي القاسم المشترك للقوى الوطنية والإسلامية؛ فنحن - حقيقة - كنا نمثل همزة الوصل بين الفكرة الإسلامية والفكرة الوطنية.

وبمراجعة سريعة لمجمل الأفكار التي تحدث عنها الأخ النائب يحي موسى، والخاصة بفلسفة الحزب ورؤيته السياسية، يتبين لنا حجم النضوج المبكر الذي قامت عليه الفكرة، والتي كان بالإمكان لها لو استمرت أن تكون الحاضنة لكل أنشطة حماس السياسية، وربما لأسهمت في إعفاء الحركة من كل الانشغالات والمعارك والاتهامات التي أعقبت تسلم حركة حماس لمشهد الحكم والسياسة.. فالحزب كان بإمكانه انشاء شراكات سياسية مع باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي دون تحميل حركة حماس تبعات النجاح أو الفشل؛ لأن العبء – حينئذ – كان سيتحمله الجميع.

لا شك أن الرؤية التي كان يتحرك بها الحزب كان من السهل أن تجمع حولها الكل الوطني، في سياق مساحة فضفاضة تسمح بالاختلاف، دون الوصول إلى حسم المواقف بتهديدات السلاح.

إن قراءتي لما آلت إليه الحالة الفلسطينية - اليوم - من تشرذم وتعصب وتنابز بالألقاب هي أشبه بالحالقة، التي لا تبقي ولا تذر، وإن علينا جميعاً مراجعة مواقفنا السياسية، ومنطلقاتنا الفكرية، ومعتقداتنا الأيدولوجية، والحرص على أن يقدم كل منا خطوة أو خطوتين للوراء من أجل كسب مساحة واسعة للأمام باتجاه الوطن.

أتمنى أن يُعاود الإسلاميون في فلسطين مراجعة موقفهم تجاه الحزب السياسي، فهو الخيار الأمثل للتحرك لحماية المشروع الوطني، والذي يمضي في الفضاء الدعوي والجهادي بمباركة تيارات إسلامية محلية وإقليمية.. فالسياسية هي جزءٌ من العمل الملقى على كاهل أصحاب المشروع الإسلامي، وليس بالضرورة شغلهم الشاغل، ويكفي أن تُفرز بعض الطاقات لحشد ما تتطلبه السياسة من تحركات وعمل، وفتح الباب للجميع للانضواء تحت راياتها.

إن نغم العمل السياسي في سياق إطار حزبي منفتح على الجميع، ومنضبط بإيقاع دعاة المشروع الإسلامي، سوف يأتي بألحانٍ تتقبلها – بأريحية وانسجام - أذواق الرأي العام.
إن الأيدولوجيات الحزبية إذا تعاملت - سياسياً - بحدِّيات المفردات الدينية وبلغة المطلقات فسوف تخسر؛ لأن السياسة – كما يقولون - هي درجة احتراق الأيديولوجيا.

إن الأحزاب القائمة على خلفيات دينية متشددة سوف تصطدم بالرفض والاستهداف، وقد شاهدنا ذلك في الجزائر في مطلع التسعينيات مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS)، حيث دخلت في صراع مفتوح استمر عقد من الزمان فيما عُرف بالعشرية الدموية أو المحنة الوطنية.. وإذا ألقينا نظرة على الخريطة الحزبية للدول التي تتمتع بديمقراطيات عريقة، فإننا نجد أنها عملت على تكييف واقع الحياة الدينية ومزاوجته بالحالة الأيديولوجية القائمة، لتتعايش مع الأفق الأرحب لتوجهات الآخرين وانتماءاتهم، وحزب العدالة والتنمية (AK Party) في تركيا هو أحد هذه النماذج، حيث استوعب الحزب - برغم الخلفية الإسلامية للقائمين عليه – كل العناصر الليبرالية والقومية واليسارية التي تدعم فكرة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، كما أننا نشهد اليوم في أوروبا ظهور العديد من الأحزاب التي على شاكلة "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، في ألمانيا، و"الحزب الديمقراطي المسيحي" في السويد، وحزب "نداء الديمقراطية المسيحية" في هولندا.. الخ

وأختم بالقول: إن السياسة هي فن الممكن، وهي لعبة لها قوانينها القائمة على أسلوب الأخذ والعطاء، ومن غابت عنه هذه الحقائق فعليه أن يتعلمها، وعليه - دائماً – أين يستحضر في كل ما يقوم به من عمل مقاصد الشريعة وفقه المآلات،  فالسياسة – كما قال بن عقيل - ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد.
  



200

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد