في غالب الظن أن العالم سينشغل على مدى أشهر وأشهر قادمة ـ كما هو منشغل اليوم ـ بمعرفة الارتدادات الحقيقية للزلزال الذي ضرب الولايات المتحدة بفوز ترامب برئاسة هذه الدولة العملاقة.
في تفسير "حالة" الفوز هناك آراء متعددة متقاربة ومتقاطعة وأحياناً مختلفة، لكن هناك ما يشبه الإجماع أن هذا الزلزال ما كان ليحدث لولا الهشاشة والتردد الذي بدت عليه إدارة اوباما في السنوات الأخيرة، ولولا أن الاقتصاد الأميركي قد تراجع جراء الأزمة المالية التي عصفت بالعالم، ولولا أن الكثير من مظاهر الوهن والشيخوخة باتت بائنة في المظهر السياسي والثقافي والاجتماعي الأميركي.
اليمين الأميركي راهن على العودة إلى "الدور" الأميركي كشرطي يدفع من جيبه للعب هذا الدور إلى شرطي جديد يجب أن يُدفع له كي يقبل بلعب هذا الدور، وإلاّ فإن الولايات المتحدة ستعود للاهتمام بأوضاعها الداخلية وترميم بُناها التحتية كي توفر الموارد الكافية لإعادة السيطرة على العالم من موقع الدولة العظيمة وليس من الدولة الكبيرة.
واليمين الأميركي يراهن اليوم على أن يبيع دوره العالمي لترميم اقتصاد أميركا وليس رهن هذا الاقتصاد لحماية الآخرين، وهذا الأمر بالذات سيحدد دور المجمّع الصناعي العسكري بصورة غير مسبوقة بعيداً عن "سباق التسلح" الذي ينهك الدولة الأميركية ويحدّ من قدرتها المتجددة على استهلاك ما ينتجه هذا المجمع.
الدولة الأميركية المثقلة بحالة المراوحة والتراجع وتسيير الحالة الاقتصادية "بشقِّ الأنفس" لم تعد ـ من وجهة نظر اليمين ـ قادرة على الاستمرار الطويل في هذه الحالة، ولذلك فإن اليمين الأميركي وقد تمكن من إيصال ممثله (المشاغب) إلى البيت الأبيض يقف أمام "فرصة تاريخية" لإحداث الانقلاب المطلوب.
وحتى يحدث هذا الانقلاب لا بدّ من الهجوم، بل لا بد من الاجتياح الكبير على كل المكاسب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى السياسية التي حققها المجتمع الأميركي عَبر بوابة (إنعاش) الأعمال الذي سيؤدي إلى أعلى درجة من التشغيل بأقل الحقوق الممكنة وبأفضل الشروط الاقتصادية للاستثمار الكبير في الولايات المتحدة. لا يوجد تفسير علمي رزين لما يجري من تحولات في قلب النظام الرأسمالي سوى التفسير الماركسي الذي تنبّأ مبكراً بهذه الأزمة. وأشار إلى صيرورتها نحو الأزمة العامة والشاملة.
الحزب الديمقراطي الأميركي وقف في منتصف الطريق ولهذا فشل وكل من سيقف في منتصف الطريق سيفشل واليمين الأميركي يراهن على مرحلة جديدة وهو على ما يبدو لن يقبل بأقل من سيطرة منهجه كاملاً على الحياة الأميركية.
في الأشهر القادمة (في أغلب الظن) سيفهم المجتمع المدني الأميركي حقيقة ما جرى في انتخاب ترامب، وحينها فقط سيعاود هذا المجتمع تنظيم صفوفه لمواجهة هذا الاجتياح.
وبدلاً من تشرذم اليمين فإن الحزب الديمقراطي هو الذي سيتعرض للشرذمة (كان الحزب الجمهوري سيتشرذم لو نجح الحزب الديمقراطي) وستتم إعادة اصطفاف كبيرة للقوى السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة وبناء جبهة جديدة في مواجهة ترامب والحزب الجمهوري الذي سيلتف حوله المحافظون الجدد الذين سيُحكمون سيطرتهم على الإدارة الأميركية الجديدة.
برنامج اليمين الأميركي لن يمر (على ما يبدو) دون حريق أميركي كبير، والحريق ـ إن حدث ـ سيأتي على الكثير من الأخضر فيها وربما يأتي على اليابس، أيضاً.
واضح تماماً أن "ساندرز" هو ظاهرة سياسية جديدة في مواجهة ترامب وفي مواجهة كل "أنصار" الوقوف في منطقته الوسط، وواضح أن الحركة الشعبية والاجتماعية والسياسية الجديدة في هيئة منظمة ومنسقة هي الجهة الوحيدة القادرة على خوض معركة تاريخية بمستوى التحدّي التاريخي الجديد.
مقابل الحريق الأميركي الذي سيلي الخريف الأميركي فإن خريفاً وربما حريقاً سيجتاح النظام الرأسمالي العالمي برمته ذلك أن السمة التي عرفناها عن قدرة هذا النظام على التأقلم قد انحسرت بصورة كبيرة، وأصبح هامش المناورة الاقتصادية على التأقلم يتطلب تضحيات (اجتماعية) أكبر من أن يستطيع هذه النظام أن يقدمها.
المسألة إذن أكبر من مجرّد تغيير سياسي، وأكبر من مجرّد تبدّل الحزب الديمقراطي بالحزب الجمهوري، والمسألة ليست أميركية إلاّ بالسبق والمظهر بل هي ظاهرة عالمية تاريخية جديدة ـ على ما يبدو ـ وربما أن خارطة العالم لن تستمر كما هي عليه اليوم في غضون العقد القادم على أبعد تقدير.
إسرائيل على وجه التحديد "تعتقد" أن فترة ذهبية قادمة ستمكنها من فرض أجندتها في كامل منطقة الإقليم (كما قال "بينيت")، لكن المسألة أبعد من أنف اليمين في إسرائيل.
الحقيقة أن الخريف الأميركي والحريق الأميركي سيكون على حساب إسرائيل وليس لصالحها، وفلسطين ستخسر على المدى المباشر ولكنها ستكون الرابح الأكبر على المدى المتوسط والبعيد إذا عرفت كيف تدير السنوات القليلة القادمة بحنكة ودراية وبحذر شديد.
أما منطقة الإقليم ستشهد خضّة سياسية كبيرة تعيد الكثير من الأوراق إلى حالة غير مسبوقة من الخلط، لكن الرابح الأكبر من هذا الزلزال الأميركي هو الحركة الوطنية والديمقراطية التي ستكون على ما يبدو جزءاً لا يتجزأ من حركة سياسية واجتماعية وثقافية عالمية لمواجهة هجوم اليمين العالمي.
العالم أمام منعطف أكبر من قدرتنا الحالية على تصور أبعاده ونتائجه.
العالم على وشك الدخول في حقبة تاريخية جديدة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية