بالصور..المُقعدة "عبير" فقدت طعم الحياة برحيل "رفيقتها"
115-TRIAL- غزة / صبا الجعفراوي/ سوا/ القصف في كل مكان، صراخ الجيران يعلو من محيط المنزل، القصف يقترب ويشتد، أصوات الصرخات تبدأ بالاختفاء تدريجيا، ووسط كل هذا وذاك تجلس المقعدة عبير على كرسيها المتحرك تناظر وتسمع تلك المشاهد بلا حول ولا قوة.
الخوف كان سيد الموقف، أجواء التوتر والرعب سادت منزل "المقعدة"، فقرر أفراد عائلتها الخروج من المنزل الذي يقع في حي الشجاعية شرق مدينة غزة ، لصعوبة وصول سيارات الإسعاف وإجلائهم من المكان، خرج الجميع واحداً تلو الآخر وبقيت عبير وحدها وشعور العجز يسيطر عليها.
عبير الهركلي -21 عاما- تعاني من إعاقة حركية في قدميها منذ صغرها، عاشت لحظات صعبة جدا أثناء خروجها من منزلها في حي الشجاعية بمنطقة المنصورة القريبة من الحدود الشرقية لمدينة غزة، أصيبت في قدمها ودُمرت حياتها أمام أعينها في ثواني، ورأت مشاهد مروعة حُفرت في ذاكرتها ولن تنساها إلى الأبد.
تفاصيل نزوح عبير مع عائلتها ليلة مجزرة الشجاعية كما ترويها لـ"سوا" بصوتها المختنق: " كان القصف المدفعي عنيف تلك الليلة، وعند الساعة السادسة صباحا قرر أبي إخراجنا من المنزل خوفا على أرواحنا، خرج إخوتي جميعهم لينجوا من الموت ونسوا أن يخرجوني معهم، تمنيت لو أنني أستطيع أن أخرج مثلهم".
ولم يبق مع عبير سوى والدها ووالدتها، ولأنهما كبار في السن، لم يستطيعا حملها وإخراجها معهم، فاضطررت للخروج على عجلتها الكهربائية على الرغم من خطورة ذلك، "ولكن ما باليد حيلة".
ومن وسط أشلاء الشهداء وأنين الجرحى وصرخات الأمهات، وتحت قذائف الاحتلال سارت عبير على عجلتها برفقة والدها، مشاهد مروعة وصادمة قابلتها منذ لحظة خروجها من باب منزلها إلى أن باغتتها قذيفة سقطت خلفها قذفتها عن عجلتها وألقت بها قرب الشهداء والجرحى.
وكحال جميع أهالي حي الشجاعية في تلك الليلة لم تنطق عبير إلا بالشهادتين والقذائف تنهمر من فوق رأسها، وتستذكر ما حدث لها قائلةً "شدة الانفجار ألقاني بعيدا عن عربتي الكهربائية وأصيبت قدمي بشظية، بدأت بالزحف نحو العربة وأنا أنطق بالشهادتين، وأسمع صوت والدي ينادي (عبير وينك وينك) لكني لم أستطيع أن أرد عليه من هول صدمتي".
زحفت الشابة نحو عربتها لتكمل مسلسل هروبها من الموت، ولكن قذيفة إسرائيلية كانت أسرع منها ودمرت العربة، لحظتها أدركت عبير أنها لن تنجو بنفسها نطقت بالشهادتين مرة أخرى واستسلمت، ووقف والدها المسن بجانبها عاجزا عن فعل شيء، لحظات وسرعان ما حملها أحد الرجال الناجين ومشى بها إلى مكان آمن. وخلال رحلة النزوح النهائي من المكان، لم ترفع عبير عينيها عن عربتها، التي تعد كل حياتها بالنسبة لها ورفيقة دربها أينما حلت أو ارتحلت، اختلطت الأفكار عليها كيف ستكمل حياتها اليومية دونها؟ كيف ستذهب للقاء صديقاتها والذهاب لجامعتها واستكمال دروسها؟
وبحزن شديد تقول عبير " شعرت أنني فقدت أحداً من عائلتي بفقدان عربتي الكهربائية التي لا أستطيع فعل أي شيء بدونها، لم أشعر بأني عالة على أهلي من قبل فلقد كنت أتدبر أموري وحدي، لكن الآن حياتي صعبة جدا وأصبحت أخجل من إعاقتي وأشعر دوما بالعجز".
لم تقف معاناة "المقعدة" عند تلك الليلة الصعبة فقط، ففي تمام الساعة الثامنة صباحا من ذاك اليوم المشئوم تمكنت هي وعائلتها من الوصول إلى مستشفى الشفاء وسط مدينة غزة، وبعدها تم نقلهم إلى إحدى مدارس غوث وتشغيل اللاجئين " الأونروا " التي تحولت إلى مراكز إيواء لمئات الآلاف من العائلات الذين شردوا من منازلهم، لتبدأ فصول معاناة جديدة مع عبير في تلك المدرسة.
" عشرة أيام جلست وحدي، لا أستطيع التحرك خارج الفصل الذي آوانا، فلم يكن معي شيء يساعدني على الحركة بعد أن فقدت عربتي وعكازيّ، كنت أزحف نحو باب الفصل وأجلس دقائق معدودة أشاهد فيها الأطفال يلعبون في ساحة المدرسة والنساء يغسلن ملابس أطفالهن" تضيف عبير.
وبعد عدة أيام توفر كرسي متحرك للعشرينية، وتكمل "في البداية فرحت به كثيراً، جلست عليه وتوجهت لباب الفصل للخروج إلى ساحة المدرسة، لكن تفاجأت بعدم قدرتي على الخروج خوفا من تكرار نفس المشاهد التي رأيتها ليلة المجزرة، كانت نفسيتي سيئة جدا".
وشهدت مراكز إيواء النازحين وضعا صعبا جدا، حيث لجأ معظم سكان المناطق الحدودية إلى مدارس الاونروا وبعض المدارس الحكومية التي كانت الملجأ الوحيد لهم بعدما تقطعت بهم السبل، وتحملوا على مدار أكثر من شهر قلة النظافة وانتشار بعض الأمراض وسوء التغذية نتيجة ازدحام تلك المدارس بالنازحين.
جميع من عاش في مراكز الإيواء كان يعاني من وضعها الصعب، إلا أن معاناة "المقعدة" كانت مضاعفة، حيث كان أحد أخوتها يضطر أن يحملها إلى المستشفى المجاورة للمدرسة حتى تستطيع أن تقضي حاجتها في دورات المياه هناك نظراً لقلة نظافة حمامات المدارس.
معاناة توفير المواصلات للعشرينية هي أكبر عقبة واجهتها وما زالت تواجهها، ونظرا لظروفها المعيشية الصعبة لجأت إلى بيع معلبات المساعدات التي تصل من المؤسسات الإغاثية لتوفر بضعة شواقل ثمنا لمواصلاتها وأخيها الأصغر الذي أصبح يرافقها دوما عوضا عن عربتها الكهربائية.
وتفيد الإحصائيات الأولية أن 25% من مجمل المصابين خلال العدوان الأخير على قطاع غزة يعانون من إعاقات، الأمر الذي سيعمل على زيادة نسبة ذوي الإعاقة في فلسطين بشكل كبير التي بلغت 3.7% في آخر إحصائية مسجلة.
وضعت الحرب أوزارها، وعادت عبير وعائلتها لمنزلهم الذي تضرر نتيجة القصف العنيف الذي تعرض له حي الشجاعية، ولكن لم تعد معها حياتها ولم تعد هي كما كانت سابقا نتيجة فقدانها لرفيقة دربها –عربتها الكهربائية-، لم يعد معها سوى ذكريات أليمة عاشتها ومعاناة كبيرة تعيشها في تفاصيل يومها.
ولا تتمنى عبير سوى أن تحصل على رفيقة جديدة (عربة كهربائية) تخفف عنها معاناتها في التنقل هنا وهناك، لتعيدها إلى تفاصيل حياتها وتعيد لها ثقتها بنفسها وعزيمتها وإصرارها على الحياة.
210