كانت ستي رحمة الله عليها لا تتركُ شاردةً ولا واردةً إلا وتدلو بدلوها فيها، فقد كانت عبارة عن حكومةٍ متنقلةٍ في الصباح تستمعُ الي الراديو من بعد صلاةِ الفجرِ وحتى بزوغِ شمسِ النهار، تحفظُ الأخبارَ وتبدأ بتحليلها وتراقبُ ردةَ فعلِ نساءِ الحارةِ والجارات وتتابعُ أخرَ التطوراتِ في كافةِ الأنحاءِ، أخبارُ ستي تصلُ الي كلِّ بيتٍ فلها من الأبناءِ والبناتِ ما يكفي لنقلِ أخبارِها وتحليلاتها الي كلِّ بيت، فهي لديها القدرةُ على الإقناعِ من خلال أفكارِها الخلابة والجذابة ولها وسائلُها في التأثيرِ على الآخرين من خلالِ امتلاكِها موهبةَ الخطابةِ بكافةِ اللهجات واللكنات، ستي مشروعٌ قوميٌّ اندثر ولم نعرفْ قيمتَها إلا بعد أن فارقتْ الحياة وتركت لنا إرثاً وطنيا كبيرا لم يستطيعْ أحدٌ على أن يحملَهُ حتى الآن.

ترأست ستي الحكومةَ وجلست على مقعدِها الكبيرِ وهي ترفعُ شعاراتِ الحب " حبي وحبك في قاع قنية وحسبنا بالله على يلي يخلف النية " ، لا أحد من الوزراء قادرٌ على أن يخلفَ النية أو ينكرَ الجميلَ أو يفكرَ أن يرفعَ رأسَهُ ويقول لا لقراراتِ ستي التي كانت بمثابةِ القراراتِ المقدسةِ التي تنبعُ من وحيٍّ مقدسٍ أوحى به إليها من تحت الأرض او من فوقِها، إن نظراتِ ستي كالشعاعِ لا يمكن لأحدٍ أن يقاومَ زرقةَ عينيها وينظرَ إليها كثيرا حتى يسقطَ مغشيا علية ليس من شدةِ جمالِ عيونِها بل من قوةِ تلك النظرات.

لقد أصبحت ستي القائدَ الكبيرَ الذي يحكمُ أركانَ البيتِ من يمينه إلي يسارِه، لقد شكلتْ ستي وزاراتٍ وأصبح لديها حشمٌ وخدمٌ، لقد أبدعت ستي في ترتيبِ بيتها وارتفعت طوابقَه حتى وصلَ الأمرُ إلي بناءِ بيتٍ جديدٍ للحيوانات في حديقةِ البيت، تربي الكلابَ والذئابَ والثعالبَ والقططَ والغزلان والخرفان، بحنكتِها السياسية جعلتهم سواسيةً ولا يخشى الخروفُ على نفسِهِ إلا سكين ستي وليس الذئب.

لم تعدْ ستى كما مضى فقد أصبحت لا تستمعُ إلي الأخبارِ فهي الآن تصنعُ الأخبارَ وتتحكمُ في طبيعتِها، إن لها مستشارين إعلاميين وأخصائيين نفسيين ومحللين رأي عام وخبراء اقتصاديين لديها أركانُ الدولة تعيش العظمة والقوة لها أمولٌ في الأرضِ ودعوات في السماء.

عايشت ستي جميعَ الوزراءِ مريضهم وسقيمهم فهيمهم وغبيهم كبيرهم وصغيرهم، لم تجدْ فيهم إلا مجموعةً من الأغبياءِ يسترزقون ويقدمون ولاءَ الطاعةِ في الصباحِ ويقبلون الأيادي في المساء، لم تحسبْ لهم أيَّ حسابٍ، إلا لذاك الشاب الصغير فهي ترى فيه مشروعَ قائدٍ ناجحٍ وهو يرى في نفسِه مشروعَ متمردٍ كبيرٍ، تخشى عليه أن يقتلَه طموحَه بأن يكونَ عصا غليظةً في يدِ الكبارِ يُجلدُ بها الصغار، عاش تحت أركان ستي أياما وليالي، عاش في ظل عرشِها حاميا ومحميا، تقرب إليه الصغيرُ والكبيرُ ، لقد حصل على لقبِ الابنِ المدلل، لعلك تتذكرُ ذلك يا بني إنني لن أبقى لك طويلاً، لعل الحياةَ ومدرستَها تتغيرُ والتعليم يتغيرُ والمنهج يتغير ولن تجدَ من ينفعُك سوى أصدقاءِ السوء!

أين تجدُ أصدقاءَ السوءِ في زمنٍ أصبحت فيه الذئابُ تأكلُ من صحنِ الخراف، البحثُ عن استحداثِ قائمةٍ جديدةٍ من أصدقاءِ السوءِ بدأت بمرضِ ستي واعتلالِها وعدمِ قدرتِها على السير، لقد جاعت الذئابُ والكلابُ وبدأت تخافُ الخرافُ ، وهربت الغزلانُ، وأعلنت حالةَ التمردِ والحربِ في بيتِ ستي .

دقت ساعةُ الحربِ وخرجت الثعالبُ لتنثرَ مكرَها على قبرِ ستي وتفرق ما جمعت طوال سنواتِ عمرِها فقد قسّمت الكلابَ إلي مجموعتين والذئابَ إلى ثلاثٍ ووضعت كلبا كبيرا حارسا على بابِ الخرافِ كي يحميَها، واعتلت القططُ أسطحَ المنازلِ والجدرانِ تنتظرُ وتترقبُ معركةً مصيريةً على ميراثِ ستي التاريخي، على بيتِها وأرضِها ومالِها ومدخراتِها.

لم تكن المعركةُ سهلةً فالجيرانُ أيضا ينظرون والأقاربُ يترقبون والحلفاءُ مستعدون والغرباءُ يحفرون، لقد سقطت ستي وسقطت دولتها من بعدِها، لقد تفرقَ أبناؤها وضاعت هيبتُهم بين أقرانِهم لقد شَمِتَ الأقاربُ ، وفرحَ الغرباءُ وتكالبوا على أملاكِ ستي وبدأت الأركانُ بالانهيارِ في كلِّ مكان.

لقد ضاع تعبُ أربعين عاما وأكثر من البناءِ في غمضةِ عينٍ، ألا يا ستي تفيقين من جديدٍ وتعودين ولو يوما واحداً من الموت، لتري ما فعل الغرباءُ والأقرباءُ بنا، لقد أصبح الوطنُ وطنين والحكومةُ حكومتين والشعبُ شعبين والعاصمةُ اثنتين أو أكثر والفقرُ واحداً والظلمُ واحداً والنصرُ بعيدَ المنالِ وما يفرقُنا أكثرُ مما يجمعُنا ولنا سفارةٌ هيكلُها من الشمعِ وشبه سفينة لا يركبها إلا ابنٌ عاق يبحرُ بها بنفسِه تارةً ميمنةً وأخرى ميسرة يديرُ دفتَها نحو العاصفةِ والأمواجِ العالية، لقد أصبح الحلمُ وهماً يا ستي فلا حديثَ عن الثوابتِ ولا حديثَ عن العاصمةِ وقضيةِ اللاجئين وعودتهم لم نسمعْ عنها منذ زمن.

بموتِك يا ستي مات الوطن وبقي لنا ذكرى نمجدُ أركانَها كلَّ عامٍ بصورةٍ أو يافطةٍ معلقةٍ تذوبُ في كلِّ شتاءٍ ويبقى أن أحلامَك أيضا لن تتحققَ ولن يكتملَ حلمُك بها ولن يكتملَ طالما بقيت القططُ تنتظرُ الفائزَ من معركةِ الكلابِ والذئابِ والحكمُ ثعلبٌ . 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد