ما لم يُقل في خطاب إعادة الإعمار..عصام يونس

4-TRIAL- كيف يمكن تفسير أن يعيش طفل في غزة في السادسة من عمره تجربة ثلاثة حروب، بينما جِدٌ سبعيني لطفل آخر ومن نفس سن طفل غزة، على الطرف الآخر من المتوسط، لم يعش إلا تجربة حرب واحدة هي الحرب العالمية الثانية. بل وأكثر من ذلك فطفل غزة يبدو أنه في انتظار حرب رابعة بل وفي انتظار الأسوأ القادم لو استمر هذا الغطاء الدولي السياسي والقانوني لما ترتكبه قوات الإحتلال الإسرائيلي من جرائم بحق المدنيين العزل وممتلكاتهم في قطاع غزة. عندما تشعر دولة الاحتلال بأنها محصنة وأنها فوق القانون وأنها لا يمكن أن تخضع إلى أي نوع من المسائلة، ويفلت مجرموها بانتظام من العقاب، فما الذي سوف يحول دون قيامها بما هو أسوأ؟
في لقاء جرى في العام 2009 في غزة، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، دعيت وآخرين للقاء الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وقد تحدث إلينا عن التزام منظمته والمجتمع الدولي بإعادة إعمار غزة، ولم يرق لي ولآخرين من الحاضرين، ليس ما قاله بل ما لم يقله، فهو بصفته رأسا لمنظمة تمثل القوة الأخلاقية في هذا الكون، لم يأت على ذكر محاسبة ومسائلة دولة الاحتلال على الجرائم التي ارتكبتها. فهل يختصر ما ارتكبته دولة الاحتلال من جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وما نتج عنها من آثار كارثية، بإبداء الالتزام بإعادة الاعمار فقط؟ وأذكر مما قلتُ للرجل، هو أنه كيف يمكن إعادة إعمار غزة ولا يمتلك أحد أي ضمانات بأن ما سيتم إعادة بنائه، لن يتم تدميره مرة أخرى. وكيف سيقوم المجتمع الدولي بذلك (بافتراض حسن النوايا) في ظل غياب مبدأ المحاسبة عن الجرائم المرتكبة؟ وثانيا، كيف يمكن لك إعادة إعمار غزة ومنظمتك (في ذلك الوقت) لا تستطيع ادخال كيس واحد من الاسمنت بفعل ما تفرضه دولة الاحتلال من حصار على القطاع؟
ما أشبه اليوم بالبارحة، عندما نستمع طوعا أو كرها لخطاب إعادة الإعمار بعد أن توقف إطلاق النار في عدوان أخر جديد على القطاع، ويثير ما سمعناه  وما لم نسمعه قضايا بالغة الأهمية وتعيد تكرار أسئلة الحقيقة السابقة مضافاً إليها ما هو أهم وهو غياب ملحوظ يظهر بؤس السياسة وتغييب القانون، عندما لا نسمع همسا أو صخبا، أو لا نقرأ حتى بين السطور ما يصر على أن دولة الاحتلال "المتسببة بالضرر" عليها واجب جبر الضرر بناءً وتعميراً وتعويضاً، وبدلا من ذلك نرقب إنصراف اولياء الأمر والدم في متابعة مؤتمر للمانحين مخصص لإعادة إعمار غزة والذي من المتوقع أن يعقد في القاهرة بداية الشهر القادم. فأصل الحكاية ليس موضوع البناء والتعمير، على أهمية ذلك وضرورته، فحسب بل هو المحاسبة وإجبار دولة الاحتلال على تحمل المسئولية عن أفعالها وربط ذلك بمسئوليتها هي ذاتها عن إعادة الاعمار وجبر الضرر، وهذا هو الوقت الأكثر ملائمة للاصرار على ذلك.
في تحلل منظم من القواعد الأخلاقية والقانونية، وفي مشهد متكرر بأبشع من سابقيه و سياسة دولة غير مُنكَرَة هدفت ولازالت إلى ترهيب المدنيين وإيقاع أكبر الأذى فيهم وفي ممتلكاتهم، قامت قوات الاحتلال بتدمير مقدرات الشعب الفلسطيني طال آلاف المنازل ومسح أحياء بأكملها عن الخريطة وتدمير منظم للمرافق العامة والحيوية والخاصة والأعيان المدنية وللمقدرات الاقتصادية من مصانع ومنشآت انتاجية ومن أراض زراعية وثروة حيوانية ومن تدمير للبنية التحتية المتهالكة أصلا بفعل سنوات من حصار جائر، ناهيك عن قتل وجرح الآلاف من مدنيين محميين بموجب القانون الدولي، وهي التي ارتكبت كل تلك الجرائم للمرة الثالثة خلال ست سنوات دون أن تخضع لأي شكل من أشكال المحاسبة وتحميلها المسئولية عما ارتكبته من جرائم.
لاجديد في ذلك، أي عدم إخضاعها للمحاسبة، فهو معلوم للجميع ولمختلف أطراف المسئولية القانونية والسياسية، محليين وإقليميين ودوليين، وهو ما يجعل منها دولة محصنة وفوق القانون تتصرف في ظل غطاء دولي سياسي وقانوني بائن بينونة كبرى، وهو ما يعني بأن علي الجميع توقع ماهو اسوأ مما ارتكب حتى الآن بحق المدنيين الفلسطينيين، وشاهده العالم، صامتا دون أي فعل حقيقي، من دولة تنتشي بالحصانة وتحظى بضوء أخضر للتغول ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، في دم الفلسطينيين وأراضيهم وممتلكاتهم، ولكن الجديد والمثير حقا هو أن يختفي من خطاب الفلسطينيين والمجتمع الدولي من قبلهم وبعدهم، أي مطالبة لدولة الاحتلال نفسها بإعادة بناء ما دمرته على مساحة القطاع حيث اقتصر خطاب ما بعد وقف اطلاق النار على اعادة البناء فقط دون الاصرار على أن من دمر وهدم وجب عليه إعادة البناء والتعويض. 
إن القاعدة الأساسية في القانون الدولي تقضي بأن من تسبب بالضرر وجب عليه جبره، وهو ما يعني أن من تسبب بالضرر هو تحت طائلة الواجب القانوني بإعادة الاصول إلى ما كانت عليه (restitution) وبتعويض الضحايا ونَصَفتِهم. ولكن أن تقوم دولة الاحتلال بالتدمير ويتولى الآخرون إعادة البناء (إن قاموا بذلك أصلا) دون أن يكلف ممثلي الضحايا أنفسم حتى تظهير مسئوليتها في إعادة البناء فهو ما لا يمكن قبوله أخلاقياً وسياسياً وقانونياً ولابد معها من تصحيحه فوراً.
الضحايا الجيدون هم الذين لا يكلون عن ملاحقة من جعل منهم ضحايا بكل ما يمكنهم ذلك من أدوات قانونية وسياسية ودبلوماسية. فدورة الظلم التي تعيد انتاج الضحايا وتكرار الجريمة من بناء ثم تدمير ثم بناء في انتظار تدمير آخر، ونتيجة التسامح مع ذلك ودون كسر لتلك الدورة، فإن دولة الاحتلال تفعل والآخرون يدفعون (they play and others pay) ويبدو أن كثيرون لا مشكلة لديهم في ذلك، طالما سوف يلتزم المجتمع الدولي (يتعهد بالالتزام دون أي ضمانات في ذلك) بإعادة الاعمار، فالبناء هو المهم كائنا من كان من يقوم به طالما أن تلك العملية بذاتها هي المهمة وهو ما لا يمكن لأحد أن ينكر اهميتها وما تشكله من ضرورة ومطلب ملح ولكن ذلك يبقى دون معنى أو قيمة ما لم يتمثل خطاب الإعمار ويتملك وعي مقدميه تظهير مسئولية الاحتلال عن تلك العملية ومسئوليتة المباشرة في دفع فاتورة إعادة الاعمار وتعويض الضحايا كجزء من مطالب عادلة، أقلها تحميلها المسئولية عن جرائمها كضمانة لعدم تكرارها.
والقضية الأخرى التي لاتقل أهمية، هي تلك المتعلقة بقضية من ينتظرون البناء وإعادة الإعمار ممن شردوا وأجبروا على النزوح ممن دمرت قوات الاحتلال منازلهم. يغلب على الخطاب والممارسة في ذلك، ما يمكن تلخيصه في التعامل معهم وكأنهم، فقط، كتلة سكانية تعيش أوضاعاً بالغة الصعوبة، في انتظار إعادة بناء ما دمره الاحتلال. وفي ظني إن هذه النظرة وإن كانت صحيحة ولكنها تبقى قاصرة ويشوبها عوار قد ينذر بعواقب بالغة الخطورة وذلك بالتعامل معهم ككتلة بشرية أقرب إلى أن تكون في حالة من السكون (static)، أي أنهم جماعة سكانية تنتظر بناء مادمرته لهم قوات الاحتلال، ذلك بالضبط ما يدفع إلى تحذير مختلف الفاعلين السياسيين بأن هذه الكتلة ممن دمرت منازلهم وأجبروا على النزوح هم كتلة بشرية بالغة الدينامية والحراك والتفاعل، وأن ما بين نزوحها وإعادة إسكانها فإن مفاعيل كثيرة سوف تنتج حقائق وممارسات اجتماعية وثقافية واقتصادية كثيرة، فردية وجماعية، قد تصبح معها تلك الحقائق (المشاكل) التي قد تنتج عن تلك الدينامية ليست أقل ضغطا على المجتمع من مشكلة إعادة الإعمار نفسها. والسؤال التوضيحي عندها، ما هو المتوقع من سلوكٍ وفعلٍ، في ظل عامل الزمن الضاغط، لعائلة حرة وكريمة فقدت كل ما تملك من بيت ومقتنيات وذكريات، لدرجة أن أفرادها لم يتمكنوا من أخذ أي شييء من مقتنياتهم بل حتى لم يتمكنوا من انتعال "شبشب" في اقدامهم لينجوا بأنفسهم من موت محقق، فالثواني كانت الحد الزمني الفاصل بين الحياة والموت بقصف المنزل على رؤوسهم جميعا.
لابد أن يظهر الحكماء الآن ولينتشروا في الأزقة والمدارس واماكن الايواء، يمسحوا على رؤؤس من فقدوا أعزائهم ومن كانوا يوما يملكون بيوتا ومصادر رزق، ورأس الحكمة هنا هو إشراك الضحايا اشراكا فاعلا ونشطا في عملية إعادة بناء منازلهم وإعمار مناطقهم، فلا يمكن ولا يعقل أن يتولى أي كان مسئولية الاغاثة والإعمار بالنيابة عن الضحايا دون إشراكهم فيها. هم أصحاب المشكلة الحقيقية ولايمكن لأحد أن يتصرف نيابة عنهم، بل إن من مصلحة المجتمع ومن سيتولون تلك العملية أن يبادروا إلى خلق شراكات حقيقية مع الضحايا، بأن يختاروا ممثليهم من عائلاتهم الكريمة بأنفسهم، دون أي محاولة لاختطاف ذلك الحق من أي جهة سياسية، ليقرروا بأنفسهم مصيرهم ويشركوا فيها تخطيطاً وتنفيذاً في عملية شفافة وضرورية ومطلوبة لعقلنة العملية ذاتها وتحمل الجميع، بما فيهم الضحايا، جزء من المسئولية عنها، حتى لا نبيع للضحايا أوهاما وتحصينها بحيث لا نخضع لأاي توظيف نفعي سياسي، وحتى لا تكون توقعاتهم أكبر من ما قد تخبئه لهم الأيام ولا اظن أحدا لا يدرك كيف يكون السلوك الانساني عندما لا تجسر الفجوة بين الواقع والمتوقع.
248
اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد