سُكان أفران الصيف يترقبون وصول سلحفاة الإعمار العرْجاء

حي الكرفانات في خزاعة

غزة / عماد وهبه / سوا / كانت هناك جنة، على ضاحية من ضواحي مدينة خان يونس، في الجهة الشرقية الحدودية منها، يكسوها اللون الأخضر وتُرِّدد الأذان فيها مآذن ثمانية مساجد، وتتقارب بنايات أناسٍ جلّ حياتهم الكِفاف، رغيف خبزهم من خير أرضهم وبعرق جبينهم، سعادتهم في بعدهم عن صخب المدينة ومكدرات صفو هواءها.

 

هم سكان قرية خزاعة البسطاء، الذين لم يكن لهم حولٌ ولا قوة أمام آلة الدمار الإسرائيلية، وقد أتت على قريتهم من القواعد فخرّ عليهم السقف، لتُحيلها خراباً، لا تستطيب سُكْنه الهوام، وتفرّ منه الأشباح حتى.

 

شِبه حل أقدمت عليه هيئة الأعمال الخيرية تمثل ببناء كرافانات صغيرة لأصحاب المنازل المدمرة، بات هو المشكلة بحد ذاتها بعدما أذابت حرارة الصيف ما تبقى من شموع الأمل، وأغرق سيل الشتاء مأواهم تارةً بمائه وأخرى بمياه الصرف العادمة، التي تجتاح الكرافانات مع أول زخّة مطر.

 

الحاجة أم بسام النجار إحدى سكان قرية خزاعة وقد حدّدت تجاعيد وجهها خطوط المعاناة وملامح المأساة، لا تجد أمامها سوى الصبر حلاً وحيداً، وكيف لا تصبر وهي التي تجرّعت علقم التشرد للمرة الثانية،  كانت العام 2008 بعدما سوّت صواريخ الطائرات الحربية الإسرائيلية منزلها بالأرض، لتُعيد وأبناءها بناؤه قبل أن تُعيد الصواريخ ذاتها قصفه خلال العدوان الأخير.

 

كل تلك الآلام لا تساوي شيئاً أمام حرقة قلب أم بسام على ابنها عماد في سنته الجامعية الثانية والحافظ لكتاب الله، والذي ارتقى شهيداً في العدوان الأخير، فلا يكاد يُذكر اسمه حتى تحاول جاهدةً حبس الدموع في عينيها، إلا أن رحمة الله التي ألقاها في قلوب الأمهات تُجري نهراً من الدموع آخذاً من أخاديد خدّيْها مسلكاً له.

 

تقول أم بسام "والله يمّا منقول إنا صامدين وصابرين، لكن النار والله بتاكلنا أكل من جوانا على أولادنا وبيوتنا وشقاء عمرنا، إحنا رضينا بالكرافانات من ضيق مش من وسع، بس عشان البنات يندارو وينسترو فيهن".

 

كمن يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، هو حال ما آلت إليه أمور أم بسام النجار وعائلتها، لاسيما مع قرب كابوس الشتاء، حيث تجتاح  السيول كرافاناتهم لتُغرق الطين بلة، ولتكون الأمراض هي العدو المرتقب، بعد أن تُهيئ رطوبة المكان الأجواء المناسبة للحشرات والجراثيم المُعدية.

 

فتبين الحاجة "السنة اللي فاتت المجاري دخلت علينا والريحة فاحت، لولا ربنا ثم الشباب جابو معدات وطريات وعملو سواتر رملية، ولا حد سائل فينا، يا ريت شفتونا وقت المطرة كيف كان حالنا ببكي الحجر".

 

ومعها في ذات الكرافان الحاجة حسنة النجّار والتي قصم ظهرها استشهاد زوجها في عدوان عام 2008، وتبعاه حفيداها شادي وآلاء النجار، لتدمر آلة الدمار الإسرائيلية في عدوانها الأخير منزلها المكوّن من 6 طبقات، تاركةً لها عبَرات الحسرة ما تسلّي به مصابها.

 

 فتسرد الحاجة والكبت يعصرها "كل واحد من أولادي كان له طابق مكوّن من 6 غرف، وحالنا ميسورة والحمد لله، والله بدنا ننجن بعد ما انقصفت هالعمارة، كلفتنا كثير وعمرنا راح معها، وإحنا مجبورين على هالحال اللي بصعب على الكافر".

 

ويتكوّن الكرافان الواحد من غرفتين صغيرتين ومطبخ وحمام لا يكاد يتسع لشخص واحد، بمساحة 30 متراً مربعاً، عمل غالبية سكان الكرافانات على توسعتها لـ 9 أمتار إضافية أخرى، ما يكلفهم قرابة 1800 شيكل، وهو ما تعجز الحاجة حسنة عن دفعه.

 

ولا يتوقف الخطر المحدق بساكني الكرافانات على سيول الأمطار الجارفة، بل تعدّاه لخطر الصواعق التي أصابت سيدة كادت تودي بحياتها، بعدما ضربت صاعقة من البرق إحدى الكرافانات الحديدية عقب العدوان.

 

مخاطر بعضها فوق بعض تُهدد أمنهم من جديد وتُجبر دماغهم لِما رأوا، على التفكير بسيناريوهات غير متوقعة، كالحاجة حليمة النجّار التي تخشى أن تُصبح يوماً وقد جرف نهرٌ جارٍ معه الكرفان بما حمل.

 

وتصرخ الحاجة حليمة "حال مش حال بالمرة، مبارح المية دخلت علينا زي البحر وإحنا نايمين والنسوان والأطفال يبكو، يعني معاناة لا يمكن وصفها، بيتنا كان 3 طوابق و6 شقق، كان فيه ساكن أكثر من 20 فرد، راح بالي فيه، وحسبي الله ونعم الوكيل على اليهود اللي خربوا بيوتنا".

 

وحري بالأطفال الصغار والنساء الخوف، وهم الذين يصادفون الكلاب الضالة في كرافاناتهم تارة، وتارة تفاجئهم الأفاعي السامة والحشرات، إضافة إلى البرد المرتقب الذي يقرص أجسادهم النحيلة، في صورة متكاملة لجحيم الدنيا الحقيقي.

 

سوسن النجّار وهي تحتضن ابنها الرضيع لتمنحه شيئاً من الدفء، وهو الذي رُزقته بعد 16 عاماً من زواجها تقول "نعيش في الكرافان 8 أشخاص، وأنا معي ولد صغير منخاف يمرض من هالوضع المأساوي، زوجي عاطل عن العمل، ووالدي مصاب بالغضروف ولا يستطيع العمل، وعايشين على المساعدات اللي هي حقنا مش أكتر".


 

وما أشبه شجاعية شرق غزة بخزاعة خان يونس، ففي الشرق من القطاع المحاصر تتراقصُ قطع النايلون المعلقة بدل النوافذ المتكسرة -ليس فرحاً- مُصدرةً ذلك الصوت المزعج، والذي يحمل في كل حركةٍ معه ذكرى قذيفةٍ أو صاروخٍ أقضّ مضاجعَ أهل غزة وسكان حي الشجاعية المنكوب على وجه الخصوص، نذيرُ شؤمٍ وقد أوشكت العواصف الباردة  القادمة على الوصول حاملةً معها مزيداً من المعاناة تضاف إلى سلسلة معاناة الحاج محمد صبري جندية وعائلته المكونة من 30 شخصاً.

 

من المستحيل أن يكون خلف تلك الجدران المهدّمة حياة، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي لم يدع بعنجهيته للمستحيل مكانٌ هنا، فأحال منازل منطقة القبة في شارع المنصورة في الشجاعية إلى مكان تنفر سكْنه الهوام، وتأوي إليه القوارض، وعشراتُ العائلات الغزّية المنكوبة، مرغمة.

 

تجتاح الرّيحُ أشباه المنازلَ لينخز برد الشتاء أجساد أيتامٍ صغار شهِدوا منذ نعومة أظفارهم ما لم ينبغي لمثلهم أن يروه، من جثثٍ بلا رؤوس وعائلات بأكملها في كومةٍ ملقاة على جوانب الطرقات يوم المجزرة التي حلّت بحيهم، في صورةٍ لم تعد تفارق مخيلة الطفلة حلا جندية التي توقظ أمها كل يوم لتسألها "ماما، وين أخدو الولد اللي راسه مقطوعة؟"

 

الحاج محمد جندية هو أبٌ لشهيدين هما عثمان وعادل والذين ارتقيا في عامي 2011 و2014 ، وثالثهم البكر عاهد الذي أبقى عليه القدر ليكون سنداً لوالديه، وعوناً لأربعة أيتام تركهم شقيقه الشهيد عادل خلفه.

 

وأكل الهم من الحاج جندية ما أكل، ولفظته السعادة من جوفها وعائلته بعدما طالت قذائف المدفعية منزلين كان يملكهما، بات أحدهما اليوم كومَة غبار تشدّها الريح معها أينما وجّهت، أما الآخر فهو أقرب إلى كوخٍ سقفه آيلٌ للسقوط.

 

يقول الحاج أبو عاهد "شقاء عمرنا راح مرة وحدة، كان لي ولأبنائي الثلاثة منزلين، وكان هناك حاصل يعمل فيه ابني عاهد في ميني ماركت صغير، هو مصدر رزقنا وكنا نحمد الله، انهدمت الدار وراح المحل، وحالياً أنا وابني عاهد عاطلين عن العمل".

 

واقترض الحاج جندية من البنك مبلغ 4000 دولار، لتجهيز محل تجاري يكون مصدراً للقمة عيشهم، ولا يزال يسدد أقساط القرض رغم أنه لم يستفد منه شيئاً.

 

ويضيف الحاج "كل شيء بعد الحرب تغير علينا، كنا مستورين والحمد لله، أما الآن نعيش في خلاء مش في بيوت، وكل يوم ولد بمرض ونأخذه للمستشفى ، وزوجتي أم عاهد تعاني هي الأخرى مرض الروماتيزم والخشونة في صابونة الركبة والله يستر لما ييجي البرد حيزيد شعورها بالألم في المفاصل".

 

 ابنه البكر عاهد وقد آلمه مشهد ابنته منار وهي تشد بيدها على بطنها من الألم، حيث كانت قد أجْرت أخيرا عمليةً جراحية لإزالة الزائدة الدودية أثناء الحرب، يروي عاهد "البنت دائماً تشكو من ألمٍ في معدتها، قمنا بإجراء عملية لها، لكن الألم بقي على حاله، فطلب مني الأطباء عمل تحاليل طبية في عيادات خاصة مكلفة لا أستطيع دفع نفقاتها".

 

ويتابع عاهد "كما ترى النايلون مكان الشبابيك والأبواب لا يؤدي الغرض، ولما العاصفة تشتد كله ممكن يتخلع والهواء البارد يدخل علينا، حتى عندما نريد دخول الحمام في نص الليل علينا الخروج والتعرض لبرد الفجر، والحمام ليس له باب".

 

وجل ما يمكن أن يفعله عاهد من حلٍ ليبعث في أجساد أبناءه الصغار الدفء هو إشعال الحطب داخل المنزل، إلا أن الحل ذاته بات مشكلةً بعد أن اصطدمت طفلته حنين بالموقد المعدني لتحترق يدها، وليتحتم على والدها العاطل عن العمل أن يدفع كل يوم 20 شيكل لتبديل ضمادات الجرح.

 

جاره الحاج فتحي الديب، لم يجد حرجاً في إلقاء قطع الخشب التي كانت فيما مضى أثاثاً لمنزله في نار الغيزر (سخان للمياه مصنوع يدوياً)، لتحترق ويحترق معها شقاء عمره الذي أفناه في بناء مستقبل أبناءه في بنايةٍ مكونة من ثلاثة طوابق لم يهنأ عليها سوى ثلاثة أعوام، أحالتها قذائف المدفعية إلى خرابٍ بلا جدران تصد الرّيح، وبسقفٍ تنساب منه قطرات المطر كل شتاء وكأنه قطعة قماش.

 

يقول الحاج فتحي "لما تمطر تتحول أرض المنزل إلى بركة مياه من السقف، يصل ارتفاع المياه عن الأرض إلى 15 سم، والحمامات والغرف دون أبواب، وضعنا شوادر، وعمدان الدار مكسرة والمنزل غير صالح للسكن لكن ما في بديل، والإعمار كما ترى أصابه الشلل".

 

لو كان بالإمكان دفع ثمن إيجار منزل لما بقي الحاج فتحي الديب هنا لحظةً واحدة، وكيف يستأجر منزل وهو الآخر ما يزال يسدد قرضاً بقيمة 7000 دولار كان قد اقترضه لشراء تراكتور (حفار) لابنه البكر رائد، للعمل عليه.

 

ويبين "التراكتور الآن عبارة عن قطعة حديد لا فائدة منه، صار خردة من قصف المدفعية، كلفني 28 ألف دولار وكان مصدر رزقنا الوحيد بعد أن تقاعدت من العمل في وزارة الأشغال، كان يصرف على 12 فرد، والحمد لله لم يتم تعويضنا بشيء".

 

أما زوجته الحاجة أم رائد فأكثر ما يؤلمها هو ما وصل إليه حال ابنيها رائد ومحمد العاطلين عن العمل، وبنتيها الجامعيّتين اللتان بالكاد تتمكنان من دفع مستحقات الجامعة المالية.

 

تقول أم رائد بحزن عميق:" كل يوم ابني بحكيلي (والله يما ما حد يسأل عليا ولا حد يسأل عن شغلي وحالي ووضعي)".

 

وتضيف الحاجة:" والله ابني صار يكلّم حاله من الوضع، ما في مية في الحنفية من أسبوع، صرنا نشتري المية الحلوة عشان نتغسل فيها، البلدية عشان مشكلة الكهرباء بطلت تشغل مضخات المية لمنطقة القبة في المنصورة".

 

وتصف أم رائد الحرج البالغ الذي يغطي محيا ابنها محمد حينما تطلب منه طفلته أن يشتري لها شيئاً وهو العاجز عن شراء أي شيء سوى ما يعينه وزوجته على البقاء أحياء، فتقول:" ابنة محمد نفسها في الكبسة والحلويات، بتطلب من أبوها وهو ما بقدر يوفر شيء، وكيف يوفر وهو كل يوم ماخد ولد من الأولاد على المستشفى؟".

 

لا يكاد يخلو منزلٌ على جوانب طرق حي الشجاعية من آثار دمارٍ، أو طلقات نارٍ، أو من خطى دبابةٍ عاثت فيه خراباً، الآلاف من تلك البيوت وحّدتها الأطلالُ حينما اختلط ركامها بركام جيرانها، مغيّرةً طبيعة الحي السهلية، لتحيله منطقةً جبليةً وعِرة، تتخللها أزقةٌ مقفرة، خاويةٌ من سكانها، سوى قليلون ممن استحسنوا البقاء، وليكونوا شهود عيانٍ على مجزرة حيّهم، في انتظار سلحفاة الإعمار العرجاء.

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد