ليس مستبعداً أبداً أن تكون معركة الموصل فاصلة على أكثر من مستوى وصعيد، ولكنها في نفس الوقت قد تكون المعركة الفاصلة في اتجاهات مختلفة عن الذي يجري الحديث عنه وعن الأهداف المباشرة المعلنة عنها.
هي معركة فاصلة حقاً، لأنها ستخرج «داعش» من الجغرافيا الرسمية للعراق، وتحول وجوده إلى خلايا نائمة، وإلى عمليات كبيرة أو صغيرة تُعهد إلى مجموعات «عصابية»، لديها خبرة واسعة في مجال حرب العصابات، وفي إعداد المفخّخات، ولديها إمكانيات هائلة من الموارد البشرية الجاهزة للعمليات الانتحارية، إضافة إلى توفّر مخازن للأسلحة والمتفجرات لا بدّ وأن «داعش» قد أعدّ لها بعناية ورؤية، طالما أنه كان يعرف وهو على علم ودراية بقرب اضطراره لخوض هذه المعركة في موعدٍ قريب.
لذا فإن خروج «داعش» من الجغرافية الرسمية ليس هو نهاية المطاف، بل يمكن أن يكون بداية لمرحلة جديدة من «الاستنزاف» الفعّال في مناطق واسعة من العراق.
وهي معركة فاصلة لأنها معركة مكلفة أكثر من أي معركة سابقة، ذلك أن «داعش» في الواقع لم يخض حتى الآن أية معركة بهذا الحجم، هذا إذا لم نقل بأن «داعش» في الواقع لم يخض باستثناء معركة «كوباني» أي مواجهة عسكرية برية حقيقية والتي هُزم فيها هزيمةً حقيقية.
أما باقي «المعارك» فقد «خاضها» «داعش» على شكل «استلام» مناطق واسعة دون معارك، والسيطرة على جغرافية رخوة ليس فيها وجود فاعل مضاد. وحتى المعارك التي خيضت ضد «داعش» حتى الآن هي معارك جوية، وقصف مدفعي وصاروخي أكثر مما هو مواجهات عسكرية مباشرة، ما يعني بأن هذه المعركة هي معركة فاصلة لأنها ستبيّن إلى أي درجة يستطيع «داعش» أن يقاتل ويصمد في مواجهة حقيقية..!؟
لكن «الخوف» هو أن لا يُضطر «داعش» لخوض هذه المعركة، وأن يجري «تهريبه» إلى الرقة ودير الزور، وبذلك تكون معركة الموصل فاصلة ولكن باتجاه إشعال سورية بحريقٍ أكبر من الحريق الذي يلتهم أجزاءً منها.
هناك مؤشرات ودلائل كثيرة على وجود هكذا نوايا وهكذا استهدافات، مع أن دلائل أخرى كثيرة تتوفر اليوم وستتوفر أكثر في الأيام القليلة القادمة من أنه ستيم «منع» هذا التهريب على الرغم من الفرق الهائل في كلفة المعركة بين الاحتمالين.
إذا نجحت الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية العربية في تهريب ما يزيد على خمسة آلاف مقاتل وقد يرافقهم عدد أكبر بكثير من التابعين لهم فإن معركة الموصل ستكون بداية حقيقية لتقسيم سورية. ذلك أن تهافت كل الأطراف على «المشاركة» في «النصر» على «داعش» بات جليّاً ومفضوحاً.
تدرك كل هذه الأطراف أن هذا «النصر» سيؤدي في نهاية المطاف وعند درجة معيّنة من تطور المعارك في سورية إلى تحديد دورها الإقليمي (فيما يخص الصراع في سورية وعليها)، أو بمعنى آخر دورها وحصتها وربما، أيضاً، مكانتها. لهذا فإن معركة الموصل هي معركة كبيرة وخطيرة على كل المستويات.
تركيا تريد أن تضمن عدم تواصل الأكراد، وتريد أن يكون لها في الشمال السوري حصة كافية للمساومة في الحل أو في الحصة التي ستؤول لها إذا فُرض التقسيم.
كما تريد تركيا أن تظهر بمظهر «الحامي» للسنة في سورية أو الشمال السوري على أقل تقدير، ولهذا فهي اليوم تدخل في معركة مماحكة ومناكفة غير مبررة مع إيران ومع حكومة العبادي في العراق.
أما الأكراد فإن لمشاركتهم هدفاً واضحاً ولم يعد يخفى على أحد ويتمثل الهدف الكردي في كل من سورية والعراق إلى إعادة طرح موقعهم في البلدين بعد «التخلص» من «داعش»، وهم على استعداد لتحويل الأقاليم الكردية في كلا البلدين إلى محمية أميركية وقواعد عسكرية توازي القواعد الروسية التي بدأت بالتوسع الكبير في الآونة الأخيرة.
أما إيران فإنها لم تعد تقبل بالسيطرة على نصف العراق وإنما باتت تحلم بربط سورية بالعراق بعد الخلاص من «داعش» في خطة لمضاعفة دورها الإقليمي وتحويل هذا الدور إلى مُسلّم سياسي محمي بالقوة الروسية، ومسنود بامتداد جغرافي وديمغرافي واسع وممتد بشكل غير مسبوق.
أما الولايات المتحدة وإسرائيل فإنهما تهدفان إلى إشعال سورية من جديد لقطع الطريق على أية تسوية سياسية في ظل الميل الخطير لميزان القوى بعد التدخل الروسي وبعد اضمحلال دور المعارضة السورية المعتدلة وانحسار مكانتها على خارطة الصراع، وهو الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى إعادة «تبني» جبهة النصرة كبديل لداعش مع إطالة استخدام داعش حتى آخر لحظة ممكنة.
معركة الموصل ستكون وحشية وغير إنسانية حتى ولو تم تهريب «داعش» فالحقن الطائفي على أشدّه، والمخاوف والهواجس تسيطر على الجانبين، والوقود الحقيقي لهذا الجنون الطائفي هم الناس الأبرياء موتاً وتشريداً ولجوءاً وضياعاً.
الولايات المتحدة لا تستطيع إعادة ترتيب المنطقة والتقدم في مشروع سايكس ـ بيكو جديد إلاّ إذا استعرت الطائفية، وإلاّ إذا انبرى كل فريق ليدافع عن مذهب هنا وطائفة هناك، وبهذا فقط يمكن لها أن توازي التفوق الروسي وتقطع الطريق على تكريسه في المنطقة.
حرب الموصل قد تحمل كل المفاجآت العسكرية، ولكنها في الواقع لا تحمل أية مفاجآت سياسية، ذلك أن كل طرف يعرف ما الذي يريده من الحرب إلاّ العرب فهم لا يعرفون كيف يمكن أن يوقفوا هذه المهزلة.
تركيا تعتقد انها باتت تجيد اللعب على المسرح، وهي تعتقد أنها طرف فاعل في لعبة الأمم في هذا الإقليم، لكنني أخشى أن تركيا هي الهدف المباشر بعد سورية والعراق، ولهذا فإن الشكّ كبير في وعيها لحقيقة اللعب الدولية في هذه المنطقة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد