على مدار عشر سنوات اتفقت الأطراف السياسية على وصف ما جرى من قبل دولة الاحتلال منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة على أنه حصار، واستمرت حالة التوصيف على مدار سنوات عجاف دون الأخذ بعين الاعتبار هدف إسرائيل من حصار قطاع غزة والتي بدأت بعد تغيريين استراتيجيين في السياسة الإسرائيلية.

أولا: فض العملية السياسية في كامب ديفيد عام 2000 وانتهاء مسار المفاوضات الثنائية، حينها قررت إسرائيل أنه لا يوجد طرف فلسطيني شريك فيما تريد من مخططات لفرض الرؤية الإسرائيلية لحل الصراع.

ثانيا: قرار حكومة الاحتلال الانسحاب الأحادي من قطاع غزة وإعادة الانتشار في محيطه لإدارة القطاع أمنيا وسياسيا والتحكم فيه اقتصاديا عن بعد، وتحويل المستوطنات من رهينة لدى المقاومة الفلسطينية الى تحويل كل سكان قطاع غزة رهينة لدى الجيش الإسرائيلي.

 

التحلل الإسرائيلي من أعباء قطاع غزة لم يغفل تنامي قوة المقاومة وتهديدها مستوطنات غلاف غزة لاحقا، ومواصلة التسليح الذاتي والخارجي، بل دفع إسرائيل لاستخدم أقصى درجات العدوان مع القطاع باعتباره كيان معادي، يمتلك قوة كبيرة مدعومة من أعداء إسرائيل في الخارج، كتهديد وجودي لدولة الاحتلال تمثل في قصف عمق الكيان وأحيانا في توقيت محدد!، مما استدعى ثلاثة حروب مدمرة أكملت دور الحصار، استندت على تضخيم دور الفصائل بغزة بوصفها "كوريا الشمالية".

 

حصار وعزل غزة وتضخيم قدراتها واستعداءها الدائم كان أقرب للنموذج العراقي بعد حرب 91 ثم الحصار ثم الاحتلال 2003 ثم الانسحاب الذي تلاه فوضى لازالت تدمر ما تبقى من مقدرات العراق حتى الأن بدرجة يصعب معها إعادة تركيب وتوحيد الدولة العراقية سياسيا وجغرافيا على المدى المنظور، تجربة قطاع غزة تقترب من التجربة العراقية وفق المراحل التي تم تنفيذها هناك وهنا، وإما ان تفضي إلى كيان يتناغم مع أمريكا أو إسرائيل أو فوضى مفتوحة على كل الاحتمال.

 

مما سبق يبدو جليا أن إسرائيل تدرك أن الحصار لن يؤدي للتركيع، لأنها لا تريد استعادة القطاع لحظيرتها، ومع استحالة قبول الفلسطينيين بالقطاع ككيان فلسطيني مستقل ومنفصل، يظهر ان إسرائيل تريد من الحصار المُطعم بالحروب شيء أخر.

 

بلوغ سكان القطاع مليونين نصفهم من الأطفال جزء منهم مصاب بفقر الدم بمعدلات كبيرة ومستوى البطالة الأعلى عالميا وتأخر سن الزواج، وتراجع مصادر المياه، والنقص الحاد في الطاقة، ومستويات عالية في التلوث، مع اغلاق محكم ومنع حرية الحركة إلا في حالات محدودة، تحت ضغط اقتصادي أمني هائل انتج تغير في قيم المجتمع وعلاقاته وروابطه، مع تشكيك مطلق في البرامج الوطنية وقدرات القيادات السياسية أفرز تراجع في الأولويات الوطنية وتدني قيم المشترك الفلسطيني لصالح علو قيم الذاتية والأنانية والنجاة الخاصة في بيئة مفككة وغير مرتبطة بأهداف جماعية مشتركة عززها أداء فصائلي وحكومي يتسم بالفشل والاستعلاء!.

 

إسرائيل تدرك التغييرات الحاصلة في قطاع غزة وتراقبها بدقة وتتدخل دوما لصالح انهيار المجتمع مع بقاء اطار مسؤول يؤدي مهمة أمنية يتحمل عبرها مسؤولية أمام الاحتلال والمجتمع الغزي، ويضطر لتمويل وجوده وبرامجه وتصوراته من مقدرات الناس الشحيحة بمنطق الاكراه تحت متطلبات مفهوم الأمن بمدلولاته الضيقة وليس الأمن بمعناه الشامل سياسيا واقتصاديا وأمنيا واجتماعيا ونفسيا بشكل يراكم نار الفوضى تحت رماد الاستقرار الاصطناعي.

 

اذن .. الضغط الإسرائيلي الممنهج بأدوات متعددة وقاسية يرمي الى أهداف ما بعد الحصار تحمل مضامينها مقومات الاشتعال بحضور عوامل أخرى خارجية وداخلية، لأن حالة الفقر والبطالة والقلق الصحي والتدهور التعليمي وقلة الموارد وضعف حركة التعمير مع تنامي الخوف من المستقبل أقره تقرير الأمم المتحدة يحذر من غزة غير قابلة للحياة بعد ثلاثة أعوام 2020 وشائعات الحرب الرابعة المتنامية، عوامل كثيرة ومتعددة تراكم لفوضى أو حرب أهلية وحالة ترحيل جزئي أو كلي خلال عدوان إسرائيلي واسع أو في حال ضعفت السلطة الحاكمة بغزة والتي لن تدوم سلطتها بالأدوات الحالية ما بين مخططات انعاش قطرية – تركية مشروطة، أو محاولات تغيير عربية تخطط لها الرياض والقاهرة.

 

الحصار مقدمة لمشاريع أخرى لن يكون من بينها إعادة الاحتلال أو الاستسلام وتضغط إسرائيل في اتجاه عدم عودة سلطة مركزية فلسطينية موحدة تحت عنوان مشروع دولة فلسطينية يمكن أن تحدث استقرار يخدم جميع الأطراف، مما يعني أن إسرائيل تبحث عن عدم الاستقرار بل تستعد لخيارات قاسية لتحقيق مكاسب استراتيجية في ظل انهيار وضعف مكونات المنطقة العربية.

 

خيارات الفوضى والاقتتال أو التطهير العرقي أو الترحيل الجماعي أصبحت حاضرة في سوريا والعراق واليمن وليبيا وتتخذ السلطات المصرية مضطرة إجراءات قاسية لإعادة الأمن في سيناء قرب حدود قطاع غزة أدت الى تغيير في بنية السكان في مناطق واسعة مجاورة لغزة، لذلك لماذا لا تستخدم إسرائيل القوة كما حدث ويحدث في حلب و الأنبار واليمن وسرت، ولماذا لا تلجأ تحت مبررات قوة غزة المتنامية الى خيارات تفكيك وتحريك في بنية قطاع غزة، خيارات خطيرة وباتت ممكنة يجب ألا تغيب عن عقل القيادات السياسة والقوى الفاعلة بدلا من التيه في مجادلات الحمق والغباء.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد