من منّا لم يسمع بالحكمة القائلة " إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب " , ولكن السكوت والصمت في بعض المواقف لا يكون من ذهب ولا فضة ولا حتى من خشب , بل قد يكون أحد أشكال الجريمة , وربما الجريمة نفسها , فالكلام في هذه المواقف مُقدمٌ على السكوت وأولى من الصمت , كما يُفهم من الحديث الشريف الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنهم – الذي نصه " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " فقول الخير هنا يسبق الصمت وأفضل منه , ومن قول الخير بل أعلاه مرتبة تسمية الجريمة باسمها واستنكارها وإدانة المجرم , ومذبحة اليمن الأخيرة التي راح ضحيتها المئات ما بين قتيل وجريح , الذين تناثرت أشلاؤهم ودماؤهم في وجه قاتلهم , هي أم الجرائم التي تستوجب الاستنكار والإدانة بالحد الأدنى كضرب من ضروب قول الخير الذي قدمه الرسول – عليه الصلاة والسلام – على الصمت .

واستنكار الجريمة وإدانة المجرم , هو موقف أخلاقي وإنساني ينبغي اتخاذه , مهما كان الموقف السياسي من الحرب الدائرة في اليمن وعليها مختلفاً . فعندما يُقصف بيت عزاء فيه الآف المدنيين الأبرياء , ويتسبب في سقوط مئات الضحايا ما بين قتيل وجريح , من أجل اغتيال بعض المسؤولين السياسيين في الطرف المعادي للسعودية , فإن هذا القصف جريمة حرب من الدرجة الأولى وإبادة جماعية بامتياز , لا يقل بشاعة عن جريمة قيام طائرات الجيش الإسرائيلي بإبادة أُسر بأكملها من أجل اغتيال قائد أو أكثر من المقاومة الفلسطينية . وفي كلتا الحالتين فإن الرسالة المُراد إيصالها واحدة في مضمونها , وهي أنه لا يوجد مكان آمن لا يمكن ضربه , ولا يوجد خطوط حمر لا يمكن تجاوزها . ولكنها رسالة غير أخلاقية ومناقضة لأدنى القيم الإنسانية في شكلها ومضمونها , خاصة وأنها وصلت معمدة بدماء الأبرياء ومحمولة على أشلاء الأطفال .

والصمت على جريمة مذبحة اليمن الأخيرة , أو ردود الفعل القليلة والضعيفة التي تبعت الجريمة , لا ترقى إلى مستوى الجريمة البشعة , ولا تتناسب مع حجم الدماء الغزيرة المُراقة على أرض اليمن

( التعيس ) , وحتى الأمم المتحدة لم تزد عن المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية في المذبحة , وهي التي كانت قد تراجعت في السابق عن إدراج النظام السعودي في القائمة السوداء لانتهاكات حقوق الإنسان الخاصة بقتل الأطفال في حرب اليمن , بعد أن نالت نصيب الأسد حسب إحصاءات المنظمات الدولية الحقوقية من المسؤولية في قتل أطفال اليمن كنتيجة لغارات طائراتها المتواصل منذ ما يزيد عن العام والنصف - دون إغفال مسؤولية الأطراف الأخرى في قتل الأطفال – وهذا التراجع تم تحت التهديد بسحب مساهماتها المالية في المنظمات الأممية المختلفة , ليتضح أن سطوة المال السياسي له الكلمة العليا في قلب الحقائق وتغيير الوقائع .

وكلمة أخيرة تُخرج من ظلال دخان المذبحة السوداء المختلطة بآخر أنفاس وصيحات الضحايا , وتنبثق من بين حُطام الحجارة المُدمّرة الممتزجة بدماء وأشلاء الأبرياء ... أن الذي يبحث عن نصرٍ وهمي في اليمن , هو بحث عن النصر في المكان الخطأ , وبحث عن النصر في مكان آخر غير مكان المعركة الحقيقي , ولن ينفعه هذا الوهم مهما امتلك من غطرسة القوة وأحلام النصر , وبدلاً من ذلك فليبحث عن المجد في مكان آخر , هو مكان المعركة الحقيقية , باتباع سُبل التقدم والنهضة الفعلية والأخذ بأسباب النصر والعزة الحقيقية , أو بتوجيه ترسانة أسلحته الضخمة إلى العدو الحقيقي للأمـــة إن كان لا بد فاعل .

أما اليمن فسيخرج لا محالة من مأزقها وستنتهي الحرب الأهلية فيها والحرب المفروضة عليها , ولكن ليس قبل أن يلتقي اليمنيون على ما يجمعهم ويوّحدهم – وهو كثير – ويبتعدوا عما يشتتهم ويفرّقهم – وهو قليل – ليجتمعوا على كلمة سواء وليتعاونوا لتحقيق مصالحهم المشتركة , بعيداً عن الاقتتال الداخلي والصراعات الاقليمية والتدخلات الدولية . 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد