"العقرب المزيف" يستطيع الحياة لمدة 17 يوماً دون تنفس

لندن/ سوا/ لا يمثل الطقس شديد البرودة سوى أول التحديات التي يواجهها "العقرب المزيف" الذي يقطن المناطق الشمالية من العالم .

عادةً ما تحظى حيوانات الماموث بالقدر الأكبر من الاهتمام، عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الحيوانات التي عاشت في العصر الجليدي.

ولا شك في أن هذه المخلوقات هائلة الحجم، تثير الإعجاب بشدة بالفعل، بأنيابها المقوسة من العاج وصوفها الوثير.

ولكن أين هي الآن؟ مجرد معروضات يتراكم عليها الغبار في متاحف العالم شرقاً وغرباً، وذلك في وقت لا يزال فيه حيوانٌ رافقها خلال فترة حياتها على سطح الأرض، يعيش حتى يومنا هذا في مناطق مرتفعة من القطب الشمالي، مُختفياً بتواضع تحت الصخور المتناثرة على طول الأنهار شديدة البرودة، وهو ما يجعله جديراً بإعجابنا، بل وتصفيقنا كذلك.

الأمر هنا يتعلق بمخلوق يُعرف باسم "العقرب المزيف" (واسمه علميا وايتشرنز ازييا تيكس)، وينتمي لطائفة العنكبوتيات. ورغم ضآلة حجمه، فإن لديه مقدرة خارقة، إذ أن بوسعه البقاء على قيد الحياة تحت الماء دون تنفس – على ما يبدو – لأكثر من أسبوعين متواصلين.

وبذلك يمثل "العقرب المزيف" نموذجاً متفرداً بين "العنكبوتيات"، فلا يوجد بينها من يستطيع البقاء لكل هذه الفترة تحت الماء بشكل متواصل، فبعضها لا تتجاوز المقدرة المعروفة عنها في هذا الصدد، سوى بضع ساعات أو عدة أيام متواصلة، لا أكثر.

ولا يتوافر لدينا سوى القليل للغاية من المعلومات عن هذا النوع، الذي يسميه البعض "عقرب الكتاب"، وذلك رغم وجود أكثر من 3000 منه، وهو على كل حال يَمُتُ بصلة قرابة وثيقة للعناكب والعقارب.

اللافت أن لدى "العقرب المزيف" كماشةً طويلةً لا تتناسب على الإطلاق مع طول جسده، لاسيما في ظل افتقاره – على ما يبدو - لذيلٍ يمثل عنصر اتزان يوازي وجود هذه الكماشة. كما يفتقر إلى الزبان المخيف، الذي نعتاد رؤيته في العقارب، ولذا يُسمى "العقرب المزيف".

بجانب ذلك، فهو لا يلدغ أو يعض – بخلاف العقارب والعناكب - أو بالأحرى لا يستهدفنا نحن بذلك على الأقل.

بدلاً من ذلك، يتغذى هذا الكائن على اللافقاريات الأخرى ضئيلة الحجم. فـ "العقرب المزيف" الذي يعيش في المنازل يلتهم بنهم قمل الكتب، وعث الملابس، وكذلك يرقات خنفساء السجاد.

 

 

ويعود الفضل إلى كريستوفر بَادل من جامعة مَكغَيل الكندية، في توثيق التاريخ الطبيعي لـ"العقرب المزيف" الشمالي، باعتباره أول باحث على الإطلاق، ينجح في ذلك. وقد ذكر ما خلُص إليه في هذا الصدد في ورقة علمية نُشرت عام 2015. المفارقة أن فريق البحث الميداني التابع له، عثر على تلك "العقارب" بطريق الصدفةٍ تقريباً.

فخلال انهماك بَادل وفريقه في العمل على إنجاز مشروع بحثي آخر في مقاطعة يوكون الكندية، توغلوا جميعاً في طريق "دَمستر السريع" الواقع إلى الجنوب مباشرة من منطقة الدائرة القطبية الشمالية، ليمروا بلافتةٍ تشير إلى جدولٍ مائي يحمل اسم "شيِب كرييك".

وعندما رأى بَادل اسم الجدول تذكر ورقةً قرأها قبل سنوات طويلة، وذُكر فيها أنه عُثر على ضفافه على كائناتٍ من نوع "العقرب المزيف" الشمالي.

عندئذٍ ضغط الرجل – كما يقول – على مكابح سيارته بقوة، وأمر فريقه بالتوجه إلى الشواطئ الصخرية لذاك المسطح المائي، ليبحثوا تحت الصخور وليجدوا تلك "العقارب" هناك.

 

 

ولإدراكه بأن عدد عينات هذا المخلوق، التي يُعرف بأنها وُثِقّت من قبل، يبلغ نحو أربعٍ فحسب، سارع بإضافة اسم تلك البقعة المتبقية على حالها منذ العصر الجليدي، إلى التصريح الذي يحوي أسماء المناطق المسموح له بإجراء أنشطته البحثية فيها. ولبضعة أعوامٍ تالية، عكف هذا الرجل على دراسة تلك الكائنات في موطنها الأصلي.

المعروف أن "العقرب المزيف" الشمالي يعيش في المناطق الصخرية المحاذية للجداول والأنهار. وتتسم هذه المناطق – وفقاً لـ باَدل - بأنها ذات طقسٍ شديد البرودة. كما أن المياه تغمرها بانتظام في فصل الربيع من كل عام عندما تذوب الثلوج. وعادةً ما يستمر ذلك لفترةٍ تتراوح ما بين يومين إلى سبعة أيام في كل مرة.

ولذا انصب اهتمام بَادل على تحديد الوسيلة التي تتمكن من خلالها تلك الكائنات ضئيلة الحجم من البقاء على قيد الحياة، في ظل هذه الظروف القاسية.

وبالتعاون مع الباحثيّن برنت سنكلاير وسوزان أنثوني من جامعة "ويسترن أونتاريو"، تم جمع 200 عينة من هذا المخلوق، عكف الباحثون الثلاثة فيما بعد على فحصها في مختبرهم، وذلك لدراسة مدى قدرة "العقرب المزيف" على الصمود في وجه البرد القارس، وكذلك درجة تحمله للعيش مغموراً بالمياه لفتراتٍ ليست بالقصيرة.

ونشر الفريق ما استخلصه من نتائج في ديسمبر/كانون الأول 2015.

وتوصلت الباحثة أنثوني إلى أن هذا الكائن – مثله مثل العديد من العناكب والحشرات – يتجنب التعرض لخطر التجمد، عبر تقليل ما يُعرف بـ"نقطة التجمد" الخاصة بجسده، وهي عملية يُطلق عليها اسم "التبريد الفائق"، وهو ما يجعل بمقدوره درء خطر التجمد عن نفسه، حتى مع وصول درجة الحرارة إلى سبع درجاتٍ مئوية تحت الصفر.

 

 

وبرغم أن هذه مقدرةٌ مثيرة للإعجاب، فإنها ليست فريدة من نوعها بين المخلوقات، إذ أن هناك كائنات أخرى قادرة على مقاومة الصقيع والبرودة بشكل أكبر، مثل حيوان يُعرف باسم "القافزة بالذنب" القطبية، يمكنه عبر أسلوب "التبريد الفائق" العيش في ظل درجات حرارة تتدنى إلى حد 20 درجة تحت الصفر.

ولكن المشكلة أن هذا الأسلوب غير كافٍ للحفاظ على حياة "العقارب المزيفة" التي تصل إلى طور البلوغ، تلك التي تقضي فصل الشتاء على الأرجح في ظل درجات حرارةٍ أدنى كثيراً من سبع درجات تحت الصفر. ولذا تلجأ هذه المخلوقات - كما يرجح الباحثون - إلى اتباع وسائل أخرى للبقاء على قيد الحياة في ظل هذه الأجواء، مثل الاختباء تحت طبقاتٍ معزولة حرارياً من الثلوج.

وهكذا فقد بوغت الفريق البحثي بشدة، لما حدث عندما غمرت سوزان أنثوني عدداً من "العقارب المزيفة" الشمالية في المياه، لتحديد الفترة التي ستظل خلالها قادرةً على البقاء على قيد الحياة.

فبعد 17 يوماً، تبين أن نصف هذه "العقارب" ظلت حية، وهو أمرٌ اعتبره بَادل رائعاً وهائلا، إذ أن تلك الفترة تفوق في طولها كثيراً متوسط فترة الفيضانات، التي يشهدها هذا الجزء من كندا.

وعندما سُحبت "العقارب" من المياه بدت مائلة للون الفضي، وهو ما يشير إلى أنها امتصت طبقة من الهواء غلّفت أجسادها.

ويقول كريستوفر بَدل إن كثيراً من المخلوقات المنتمية لشعبة "مفصليات الأرجل" تقوم بذلك، ولكن الفارق هو أن غالبية كائنات طائفة "العنكبوتيات" تستعين بطبقة خاصة أقرب إلى الدرع الواقي وتشبه خياشيم الأسماك إلى حد ما، وذلك لتمكينها من استنشاق الأوكسجين الموجود في الماء عبرها.

أما "العقارب المزيفة" فما من مؤشراتٍ تفيد بأنها تتنفس بهذه الطريقة، بل إن الباحثين استخدموا في إحدى التجارب ماءً خالياً تماماً من الأوكسجين، دون أن يؤدي ذلك إلى التأثير بأي قدر في نتائج التجربة، فيما يتعلق باحتمالات بقاء تلك "العقارب" على قيد الحياة.

 

 

ولا يزال الغموض يكتنف الوسيلة التي تتمكن بها هذه الكائنات من البقاء حية تحت الماء طيلة هذه الفترة، ولكن ربما يعود الأمر إلى أنها تستطيع بشكلٍ ما إيقاف عمل العديد من وظائفها الجسدية.

ويقول بَادل في هذا الشأن: "نعتقد أن بوسعها وقف التفاعلات الخاصة بالتمثيل الغذائي تحت الماء، والبقاء على هذا الوضع لوقتٍ طويل".

ويوفر ذلك لنا - في حالة صحته - فرصةً يمكن أن نتعلم منها الكثير. فالعلماء يدرسون حالياً طبيعة الكائنات القادرة على مقاومة البرودة الشديدة، وذلك للمساعدة على حل مشكلاتٍ تواجه الجنس البشري، مثل حاجته لفترة تخزينٍ أطول للأعضاء التي تُستخدم في عمليات الزرع.

كما أن المخلوق القادر على وقف عملية التمثيل الغذائي الخاصة به لأسابيع متواصلة، يمكن أن يكون مفيداً أيضاً للأغراض المتعلقة برحلات الفضاء الطويلة مثلاً. وهو أمرٌ يلخصه الباحث كريستوفر بَادل بقوله إن "لكل نوعٍ حيويٍ قصةً يرويها".

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد