الاعتراف بالخطأ فضيلة (وبالذنب، أيضاً).
فضيلة على كل حال وفي معظم الأحوال وليس مطلقها. 
بالمعنى الشعبي الفلسطيني فإن (على كل حال) تعني من بين ما تعنيه ـ وذلك حسب سياق الاستخدام ونبرته ـ أن الاعتراف أفضل من عدمه وأحسن من «بلاش».
لذلك فإن اعتراف الأستاذ خالد مشعل بخطأ أو بذنب التفرّد أو الاستفراد بحكم قطاع غزة هو فضيلة ولكنها ليست مطلقة إلاّ إذا كان هذا الاعتراف منزّهاً عن استهدافات كامنة.
فالعارفون بالشؤون والتطورات الداخلية لحركة حماس وبالمواقف المختلفة داخلها يرون أن هناك خطة أو خططاً تهدف للتمهيد لخطوات معينة تحضر الحركة نفسها للتعامل معها وفق مجموعة من السيناريوهات المحتملة في المدى السياسي المرئي على الأقل.
ويرى هؤلاء العارفون أن القيمة الحقيقية لهذا «الاعتراف» لا يعني الكثير إلاّ إذا جاء في سياق أو اطار استعداد حركة حماس للتخلي عن هذا التفرد في حال توفر شروط وطنية معقولة للمصالحة وإنهاء حالة الانقسام المدمّرة القائمة.
بل يذهب البعض من هؤلاء إلى أن قيمة هذا الاعتراف والإرادة السياسية الإيجابية لاستثماره وتوظيفه وطنياً تقتضي إبداء الاستعداد لهذا التخلي حتى قبل توفر تلك الشروط وذلك بهدف المساهمة في توفيرها وليس الانتظار لتوفرها.
ومع ذلك فإن هذا الاعتراف هو فضيلة، بالمقارنة مع بعض الادعاءات عن «رغد» العيش في قطاع غزة و»النعيم» الذي يتمتع به أهلنا هناك. وبالعودة إلى تلك الخطط والاستهدافات فإن حركة حماس ـ على ما يبدو ـ باتت على قناعة ـ وهي قناعة مصدرها الحقيقي تركيا وقطر ـ بأن ثمة إرادة فلسطينية داخلية وعربية إقليمية ستفرض نفسها على الواقع الفلسطيني «بلملمة» الصف الفلسطيني تمهيداً لتطورات سياسية قادمة.
بغضّ النظر عن مدى صحة ودقة التوقعات حول تلك التطورات (المنتظرة) في الأفق المباشر فإن هناك فعلاً محاولات حقيقية لإعادة لململة الوضع في العراق وليبيا واليمن، ويجري على قدم وساق التحضير للدخول في مرحلة لملمة الوضع السوري، وهي كلها ـ أي محاولات اللملمة ـ تطال الساحات الساخنة في الوضع العربي والإقليمي، وهي كلها، أيضاً، تتركز على منع الانقسام والتقسيم، والحفاظ على «الدولة» الوطنية، أو إحياء مشروعها، وإعادة دورها بشروط جديدة يكمن في جوهرها الحفاظ على وحدة المجتمعات وعلى كل درجة ممكنة من السيادة الوطنية على التراب الوطني لكل دولة.
ولذلك فإن استمرار حركة حماس بالتفرد في حكم قطاع غزة يعتبر خروجاً وشذوذاً عن التصورات التي يجري تحضير المنطقة لها، بل وتعتبر ثغرة كبيرة في وجه هذه التصورات، وستبدو حركة حماس وكأنها جزء من حالة الشرذمة ومخطط التدمير الذاتي الذي بات واضحاً تساوقه مع المصالح والمخططات الغربية والإسرائيلية.
كما أن استمرار حركة حماس بالتفرد في حكم قطاع غزة بدعم من قطر وتركيا سيصعب عليهما مهمة إعادة واستعادة عملية «التكيّف» التركية مع الواقع الإقليمي، والانخراط في عملية تفضي إلى مصالحات تركية مع المحيط الاقليمي بما في ذلك إعادة التفاهم مع دول الخليج حول الوضع في سورية، و فتح خطوط مصالحة مع مصر، وإرساء أسس وقواعد جديدة للعلاقة مع إيران، إضافة إلى إعادة تموضع تركيا في المعادلة الناظمة للرؤى والمصالح الدولية في منطقة الإقليم.
والواقع أن تركيا وقطر لم تجنيا من خلال الانخراط في مخطط الشرذمة وفعل التدمير للدولة الوطنية في سورية وتبني أطروحات الإخوان المسلمين بالكامل سوى «سواد الوجه» ولم تحظيا بأي دور حقيقي، وبقيتا في منطقة الهامش السياسي للإقليم على الرغم من كل الخدمات والحماسة والتشدد الذي كان عليه موقفهما المشترك والمتفرد لكل دولة.
كما أن إعادة «الحميمية» إلى العلاقة التركية ـ الإسرائيلية والحميمية الأصيلة في العلاقة القطرية ـ الإسرائيلية تضع حركة حماس في موقف مُحرج.
اليمين الإسرائيلي وعلى الرغم من استفادته الهائلة من بقاء حالة الانقسام الفلسطيني القائمة أساساً بفعل تفرد حركة حماس بالقطاع لن يقبل الانتظار طويلاً وهو سيطالب وربما أنه طالب بإلحاح شديد كلاً من تركيا وقطر بحسم هذه المسألة. أي إما القبول بالشروط الإسرائيلية الكاملة أو الحرب والحروب على قطاع غزة.
يدرك اليمين الإسرائيلي أن الاستفادة من حالة الانقسام الفلسطيني عبر بوابة تحكّم حركة حماس بالقطاع هي استفادة مؤقتة، طالما أن التسلح قائم على قدم وساق، وطالما أن حركة حماس ما زالت تناور في المنطقة الفاصلة بين القبول بالهدنة المجانية مقابل الخبز، وبين محاولات التمرّد على هذا الواقع المذلّ وإبداء الاستعداد على هذا التمرّد بين الحين والآخر في رسائل محسوبة بدقة وعناية. والموقف الإسرائيلي بات يلحّ على الاختيار بين شروط إسرائيل الكاملة أو إقصاء حركة حماس بالحروب والقوة العسكرية. أما الجانب الآخر من هذه المسألة فإنه يتمثل في استخدام «الاعتراف» كورقة مساومة في المعادلة الإقليمية وذلك لتحسين شروط حركة حماس طالما أن التخلي عن حكم القطاع بات مرجّحاً في اطار التصورات القادمة.
لكن الأهم من ذلك كله هو أن حركة حماس ترى بأن هذا الاعتراف سيكون أكثر من «ضروري» إذا كان هناك أي نوع من المصالحة قد تفضي إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية، إذ يبدو أن خالد مشعل سيقدم نفسه كمرشح لتولّي مناصب كبرى وعليا في تركيبة النظام السياسي الفلسطيني في هيئته الجديدة بما في ذلك كمرشح للرئاسة نفسها وهذا هو الوجه الآخر وربما الأهم لذلك الاعتراف.
كنا نتمنى أن يكون هذا الاعتراف ثمرةً كعملية مراجعة للنهج الذي سارت عليه ومقدمةً للذهاب قدماً في شراكة وطنية نابعة من تقدير خطورة الوضع والتحديات لكننا أمام واقع يقول: لا «حماس» ولا غيرها، أيضاً، قام بهذه المراجعة التي يكثف غيابها وتغييبها جوهر المأزق وعمق الأزمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد