خطاب المظلمة التاريخية الذي ألقاه الرئيس في الأمم المتحدة، الخميس الماضي، كان يعبر عن مأزق العلاقة المأزومة مع إسرائيل، لم يبالغ الرئيس في سرديته لهذه المظلمة لشعب ما زال يسير على الحصى طريدا بأقدام عارية لم يتوقف نزيفها الذي بدأ منذ سبعة عقود وأمام نفس المحفل الدولي الذي اجتمع يسمع لتراجيديا تتكرر يأمل وحده رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ألا يعيد نفس الخطاب العام القادم.
لن تغير السردية شيئا في واقع العالم الذي يقف مراقبا طوال العقود الماضية، بل إن جزءا من الحاضرين كان وما زال يعمل كشركة تأمين شاملة للدولة العبرية وفي أفضل حالات الآخرين لا يخلو الأمر من بيانات خجولة تدعو لإعطاء هؤلاء البؤساء من الفلسطينيين متسعا للحياة دون فعل جدي يعيد تصويب جزء من هذا المسار الذي هوى بهم إلى هامشية الحياة، كيف كان الوسطاء والأصدقاء والكفلاء ومحتكرو الملف الذين أرغمونا على قبول التسوية على هذه الدرجة من الوهن؟ السؤال لا إجابة له.
لكن الصدى الذي سيتبدد للخطاب مثل كل خطاباتنا يتعلق أولا بما يحدث في إسرائيل كدولة أخذت في السنوات الماضية تعالج نفسها من مفهوم السلام والتسوية كما ينزع مريض السرطان الخلايا المصابة في جسمه، فالمراقب للانزياحات داخل الدولة العبرية لا يحتاج إلى كثير من القراءة كي يدرك المسار الذي تسير به وكيف يطبق اليمين قبضته على مؤسسات الدولة وكيف تتم إعادة رسم الضفة الغربية و القدس بما يتناسب مع الفكر الاستيطاني اليميني، ليس يمين الوسط ولكن أقصى مستويات اليمين المتطرف الذي يمثله ورثة حزب "المفدال" الأب الروحي لمشروع الاستيطان وهم زعماء حزب "البيت اليهودي" الذين باتوا يسيطرون على جزء كبير من المشهد السياسي في إسرائيل.
نفتالي بينيت زعيم الحزب ووزير التعليم يحدث الآن ثورة في المناهج التعليمية لصالح الفكر اليميني.. إنه يعيد صياغة المفهوم التعليمي لصالح المشروع الاستيطاني والسيطرة وأرض إسرائيل والدولة اليهودية على "أرض إسرائيل "أما وزيرة العدل التي تعيد صياغة الجهاز القضائي بما يتناسب مع قرارات تخدم نفس السياسات والأبرز ربما في تعيينات هذا الحزب هو نائب وزير الدفاع الحاخام إيلي بن دهان والذي قال ذات مرة في مقابلة معه قبل ثلاث سنوات في مقابلة أجرتها معه إذاعة "راديوس" إن "الفلسطينيين بنظري ليسوا آدميين بل حيوانات آدمية" وذلك عندما كان نائبا لوزير الأديان.
ما يحدث في إسرائيل إعادة فك وتركيب للدولة وقيمها ومفاهيمها وثقافتها وأجندتها السياسية والاجتماعية، والعملية تتم بأسرع مما يتوقع البعض بل وتتصدر المشهد في إسرائيل قيادات أكثر تطرفا من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وحتى وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان مثل إيليت شاكيد وتسيفي حوتبييلي نائبة وزير الخارجية وحتى ميري ريغيف وزيرة الثقافة والتي لم تحتمل أول أمس، جزءا من قصيدة "سجل أنا عربي" لمحمود درويش فغادرت المنصة لتثير جدلا واسعا.
النتيجة الوحيدة التي يمكن تأكيدها مما يحدث في إسرائيل والجدل الدائر هناك والذي وصل حد تراجع اليسار بما فيه حزب العمل عن حل الدولتين يعني أن حل الدولتين قد دفن وإلى الأبد، وخاصة أن سياق الانزياح في إسرائيل يشير إلى أن السلم البياني يسير باتجاه أكثر تصاعدا نحو يمين أكثر تطرفا وأكثر تشددا وأكثر تدينا وفي هذه الحالة ينبغي القول إن البرنامج السياسي والفلسطيني الذي تأسس في العقدين والنصف الأخيرين على حل الدولتين أصبح غير ذي صلة وفي حالة انفصال تام عن واقع "الطرف الآخر" أو الشريك المفترض والذي نفض يده بقوة من محاولات سادت خلال العقود الأخيرة.
والسؤال ... أمام ذلك وبصرف النظر عن الضرورة التاريخية لسرد المظلومية باعتبارها مجرد رواية يقوم فائض القوة الإسرائيلية بإحداث وقائع مضادة لها على الأرض تجعل من قضيتنا تتباعد يوميا مع عالم مشغول بقضاياه ومصالحه، دول عربية أزاحتنا للهامش، وحين تقترب منا نستل سيف الاتهام بالمؤامرة وحالة فلسطينية تجلس على كومة من الحطام الذي نتج بعد هذا الصراع على السلطة من قبل الجميع ضد الجميع حيث احدث هذا الصراع ما يشبه الموت السريري للحالة الفلسطينية، فلا السلطة تجري انتخابات ولا منظمة التحرير باتت قادرة على تحمل المسؤولية بعد كل هذا الابتلاع لصالح السلطة الوطنية.
أمام هذا الواقع وهذه الوقائع التي لم تعد قابلة للتشكيك نبدو كفلسطينيين أمام استحقاقين كبيرين لا يمكن الحديث عن مشروع وطني دونهما، بل إن استمرار ما هو قائم يشكل تهديدا كبيرا لتبدد الحالة الوطنية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين الإسراع بهما أمام ما تفرضه التطورات بعيدا عن الخطاب النظري اللازم في إطار لعبة العلاقات العامة، لكن واقع الفعل يتطلب سلوكا مغايرا تماما وفعلا يرقى إلى إحداث انقلاب كلي في تلك المسألتين وهما الأولى إعادة بناء النظام السياسي بعد كل هذا التكلس الذي أصابه نتاج مجموعة الخلافات والصراعات وثقافة الكراهية والأجواء المسمومة التي أحدثت هذا القدر من التلوث في علاقات السياسيين بعضهم البعض وأدى إلى كل هذا التشرذم وتجميد النظام السياسي بلا انتخابات حتى أصبح أشبه بحالة من الكساح.
أما المسألة الثانية وهي إحداث انقلاب على مستوى الفكر السياسي بعد هذه التجربة المريرة من الخداع الإسرائيلي والحديث المزمن عن حل الدولتين وللمفارقة فقد غاب هذا الخطاب عن النقاش العام في إسرائيل ولم يعد في الحكومة الإسرائيلية سوى نتنياهو هو من يحمل هذا الخطاب ليس عن قناعة ولكن في إطار استمرار العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا.
على الفلسطينيين البحث بعد إعادة بناء النظام السياسي عن برنامج أكثر واقعية وأكثر قدرة على التعاطي مع المستجدات الإسرائيلية وهنا يصبح الحديث عن الدولة الواحدة ثنائية القومية أقرب لهذا الواقع بدلا من استمرار إهدار الوقت ببرنامج تجاوزه الزمن والأحداث والانزياحات.


Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد