عادت الأسئلة القلقة والحائرة مع إضاعة أكثر من أسبوعين بعد توقيع اتفاق المصالحة الأخير في غزة دون أن تسفر عن أية خطوة عملية حتى اللحظة سوى إدخال الصحف إلى غزة، وهي خطوة لا تعكس دلالات كبيرة قياسا بما ينتظره المواطن من آمال وأحلام توقف عنها لكثرة ما تكرر السيناريو الذي أصبح مملا من حوارات وتوقيع اتفاق كأن المخرج يعيد تصوير نفس المشهد ولكن باختلاف الزمان والمكان.

في كل الندوات والورش التي عقدت خلال فترة ما بعد التوقيع كانت التساؤلات عن مدى جدية الأطراف هذه المرة وعن الضمانات التي يمكن الوثوق بها بعد أن فقدت فصائل الانقسام مصداقيتها لدى المواطن، فقد تحدثت كثيرا وأعطت وعودات ما أنزل الله بها من سلطان وزفت أكثر من بشرى ثم أصابتنا بانتكاسات كبيرة، أصبح هذا السيناريو جزءا من التراث السياسي الفلسطيني في السنوات الأخيرة وسط حالة العجز الكبيرة التي سقط فيها الجميع، فشعبنا الذي تحدى أقوى قوة عسكرية في المنطقة فقد كل إمكانياته فجأة وتحول إلى حمل وديع أمام جبروت الانقسام واكتفى بدور المتفرج الذي لا حول له ولا قوة، والقوى الوسيطة التي لم تكن جزءا من الصراع على السلطة اكتفت بدور من يطفئ اللهيب المتقد بين حركتي فتح و حماس للحفاظ على انقسام هادئ، وسلطة الصحافة استسلمت عاجزة دون تبرير لهذا العجز من بطش السلطتين ولم تكن بمستوى السلطة الرابعة ولا العاشرة.

ليس هناك ضمانات محلية قادرة على إلزام أطراف الانقسام، هذه هي الحقيقة دون أن نصدق ما يصدر عن الفصائل بأن شعبنا وقواه ومؤسساته وصحافته هي الضامن لهذا الاتفاق، فبينما كان السيد عزام الأحمد أثناء التوقيع يرد على صحافية تسأله عن الضمان قائلا: أنتم الصحافيون من سيضمن الاتفاق، في اليوم الثاني كانت الشرطة في غزة تعتدي على صحافي آخر كبير يفترض أنه "الضامن" كما قيل.

المصالحة هذه المرة مختلفة هذا صحيح، ودوافعها مختلفة هذا أيضا صحيح وضماناتها غير المرات السابقة حيث أصبحت مطلبا لقوى دولية وإقليمية كبرى دفعت باتجاهها، هذا كان منسجما مع ترويض للقوى الفلسطينية وكسر آخر شوكة لمعارضة المصالحة وبالتحديد داخل حركة حماس قطاع غزة، فما جرى خلال الأشهر الماضية بعد التغيير في مصر ساهم إلى حد كبير في إنزال حركة حماس عن شجرة الرفض حيث الأزمة المالية الطاحنة وحسم وزير الدفاع المصري خياره بالترشح للانتخابات ما يؤشر على قادم حكم الحركة بعد فوزه المرجح.

مباركة القاهرة لاتفاق المصالحة الأخير ودعمها له لم يأت لرغبة مصر بأن ترى حركة حماس جزءا من النظام السياسي الفلسطيني بقدر ما أن العلاقة الإشكالية بين الجانبين تضع مصر أمام خيارات لا تريدها، فهي من جهة تريد الإطاحة بحكم حماس في القطاع الذي تعتبره جزءا من الأمن القومي المصري لاستقرار سيناء، وعلى الجانب الآخر ليس لدى مصر من الأدوات ما يمكنها من إسقاط حماس سوى تضييق حركة المعبر والأنفاق، تريد إسقاطها ولكنها عاجزة، فيأتي خيار المصالحة ليكون الأنسب للقاهرة وينهي سيطرة حماس على القطاع.

أما على المستوى الدولي الذي تعكس ردود فعله على اتفاق المصالحة رغبة كبيرة بتنفيذ الاتفاق وخصوصا الموقف الأوروبي الذي عبرت عنه وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين اّشتون فور التوقيع لأن أوروبا تسعى جاهدة للضغط باتجاه عملية تسوية تنتهي بحل الدولتين.

ومنذ أن تقدمت أوروبا بمبادرتها وهي المبادرة الفرنسية أصلا التي طرحت قبل عام ونصف العام وكانت تنتظر إعادة تشكيل الإدارة الأميركية لتنقلها للخارجية الأميركية الأقدر على التحرك بها وإلزام إسرائيل، من حينها كان لدى أوروبا رغبة بإتمام المصالحة وإدماج حماس في النظام السياسي الفلسطيني لتكون جزءا من التسوية، وهذا ما فهمته من حوار عمره حوالي عام ونصف العام بيني وبين مسؤول في الاتحاد الأوروبي حين سألني عن عقبات المصالحة سردتها له ومن بينها رواتب موظفي حكومة حماس قال: "نحن مستعدون لدفعها".

أما الموقف الأميركي الذي تعتبره إسرائيل غير حاسم تجاه رفض المصالحة ومختلفا عن موقف تل أبيب فبات من الواضح أنه سيستأنف جهوده للتسوية لأن انسحابه بهذا الشكل يضع هيبة القوة العظمى على المحك.

وقد أعلنت الإدارة أن توقف جهودها مجرد وقت مستقطع ومن الطبيعي أنها تحلم بأن ترى حركة حماس جزءا من منظومة التسوية وجزءا من حكومة تلتزم بالاتفاقيات، فهل يمكن أن تتقدم بخطة للتسوية في حال أن نصف النظام السياسي الفلسطيني وجزء من الوطن الفلسطيني خارج هذه التسوية ؟ منطلق الأشياء يقول إن وجود حماس في النظام السياسي يوفر ضمانة أكبر للمفاوضات وللاتفاق في حال تم.

لهذا ليس هناك ما يبرر كل هذا التلكؤ في تشكيل الحكومة سوى مزيد من الشك والإحباط وعودة بذاكرة المواطن إلى دائرة القلق والخوف من أن ينضم هذا الاتفاق إلى جملة الاتفاقيات التي سبقته، يعززه بعض التراشق الإعلامي الذي بدأ يتسلل من تمديد المدة وبدء الاختلاف على دور الحكومة، والخوف أكثر إذا ما استمر هذا الفراغ أن يترك لمعارضي الاتفاق فرصة للنفاذ من خلاله، هذا إذا ما وضعنا إسرائيل جانبا التي اعتبرت الانقسام أحد ثوابت السياسة الإسرائيلية ويكفي حادث واحد ليفجر كل شيء لإدراكنا أن إنهاء الانقسام هو وليد ظروف خارجية وليس لقناعة داخلية، ولخوفنا من حالة العجز التي تلف الجميع من أن يشكل الشعب ومؤسساته ضمانة لإلزام الأطراف في حال حدوث أي خلل.

أغلب الظن أن بنك أسماء الوزراء جرى تداوله منذ اتفاق الدوحة منذ عامين ولا تجتهد الفصائل بالتنقيب من جديد عن أسماء جديدة، ومعروف أن حكومة الكفاءات التي يجري تشكيلها ستكون من مقربي حركتي فتح وحماس وكل منهما لديه من الأسماء المقربة التي يقدمها كمستقلين ما يكفي لأكثر من حكومة، فلماذا هذا التعطيل الذي يعكس ترف النظام السياسي وانفصاله عن المواطن الذي قطعه مرارا سيف الوقت وترك ندوبا غائرة على تاريخه الذي يئن تحت وطأة الزمن؟

وعلى هامش إعادة بناء النظام السياسي جرى الحديث عن إجراء الانتخابات بعد ستة أشهر من تشكيل الحكومة وبهذا تجري الانتخابات في شهر كانون الثاني، لا أعرف هل هي مصادفة أم أن هناك من يخطط لتكون كل انتخاباتنا في هذا الشهر بالذات والذي يمنع مناخه القاسي من ممارسة عملية انتخابية ودعاية انتخابية جدية، ففي هذا الشهر يكون النهار أقصر أيام السنة والبرد قاسيا لا يشجع الناس على الخروج لحضور ندوات المرشحين، والمطر والرياح تمزق كل اللافتات الانتخابية فالانتخابات هي ثقافة يراد لها غرس قيم التعددية والتنافس ويفترض أن تتم في فترة يكون النهار فيها طويلا ليعطي ساعات أكثر للمواطن والمرشح لعرض برنامجه، والصيف أفضل فترة مناسبة تكون الناس خارج المنازل ترى الدعايات واللافتات تعزز ثقافتها الديمقراطية، وفي الصيف إجازة المدارس والجامعات ووجود زوار الصيف من العائلات الفلسطينية وكثير من المميزات التي لا يمكن سردها، ولكن هذا نموذج العفوية الفلسطينية في ممارسة السياسة دون حسابات دقيقة آمل ألا تكون سياستنا تجاه إسرائيل بنفس المستوى، أرجو أن تفكر الفصائل بهذا لأن الأمر أكبر من ورقة توضع في الصندوق ..!

Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد