يُروى أن رجلاً جاء إلى الإمام أبي حنيفة ذات ليلة يشكو إليه أنه قد دفن مالاً ونسيَ مكانه , فنصحه الإمام أبو حنيفة أن يُصلّى قيام الليل حتى مطلع الفجر , ورغم عدم فهم الرجل للعلاقة بين الصلاة والمال المدفون , إلا أنه عمل كما نصحه الإمام فأخذ يُصلّى قيام الليل , وفجأة وبعد وقت قصير من بداية الصلاة تذّكر مكان دفن المال , فترك الصلاة وأسرع لاستخراج المال المدفون , وفي الصباح جاء إلى الإمام أبي حنيفة وأخبره أنه عثر على المال وشكره , ثم سأله : كيف عرفت أني سأتذكر مكان المال ؟ فقال الإمام : لأني علمت أن الشيطان لن يتركك تُصلي , وسيجعلك تتذكر المال في صلاتك .
وإن كان الشيطان لم يقم بأكثر من التذكير في قصة أبي حنيفة , مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام عن الشيطان في كيفية إفساده للصلاة " ... حتى يخطر بين المرء ونفسه , يقول : اذكر كذا واذكر كذا , لما لم يذكر , حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى " . فإنه قد تجاوز مرحلة التذكير إلى مرحلة التفكير في قصة أخرى حدثت مع كاتب هذه السطور ، فقد صحوت من النوم قبل آذان الفجر بما يزيد عن الساعة لأكتب مقالاً جديداً – وهو وقتي المفضّل للكتابة – فكرته مبيّتة في ذهني قبل النوم ،وتركت اختيار العنوان ريثما أفرغ منه - كما أفعل أحياناً - ومع سماع صوت المؤذن يصدح بآذان الفجر في جنبات الليل الساكن , كنت قد انتهيت من كتابة السطر الأخير من المقال , وعدت للتفكير في اختيار العنوان المناسب للمقال , ولكنه استعصى وأعضل على الذهن , فأّجّلت اختيار العنوان إلى ما بعد صلاة الفجر وما أن شرعت بالصلاة ، حتى ورد على خاطري وأُلقيَ في نفسي العنوان المناسب للمقال الذي اطمأن له قلبي وارتاحت له نفسي . دون أن أعرف إن كان هذا إلهام ملك أو وحي شيطان أو وسوسة نفس أو لحظة إشراق . ولكن الشيء الوحيد المؤكد الذي أعرفه أن التفكير في عنوان المقال قد شغلني عن التفكّر في معاني الصلاة .
وإن كان ذلك من عمل الشيطان حقيقة , فلا بد أنه شيطان مفكر , يتقن اختيار عناوين المقالات ، وكيف لا وهو الذي يجري من الإنسان مجرى الدم ، فيدرك خبايا النفس البشرية ، فيبدع في اختيار الطرق المختلفة في غواية الإنسان , فيزيّن له الباطل , ويلبس عليه الخير بالشر , ويدخل المعصية في الطاعة ،ويُسوّف الأعمال الصالحة ، ويُهوّن عليه الخطيئة , ويُصّعب عليه التوبة , وييئسه من الرحمة , ويغرره بالأماني , ويُزّين له القبح , ويقبّح له الحسن ... ومن هذه الطرق المبتكرة للشيطان ما يرويه الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي كتابه ( وحي القلم ) تحت عنوان ( ابليس يُعلّم ) حوار بين شيخ عالم وابليس حول طرق فتنته للمؤمن حيث يسأله في نهاية الحوار , ماذا تفعل إن لم تستطع إفساد يقين المؤمن ؟ فقال ابليس : إن لم استطع إفساد يقين المؤمن زدته يقيناً فيفسد , واستحسان الرجل لأعماله السامية ؟ قد يكون هو أول أعماله السافلة , وبأي عجيب يكون الشيطان شيطاناً إلا بمثل هذا ؟
ولعلم النفس رأيٌ مختلف في هذه الظاهرة , فقد اثبتت الدراسات أن العقل الباطن يعمل على مدار الساعة حتى في أوقات النوم والاسترخاء والصلاة , فكثيراً ما نحصل على حل مشكلة معقدة أو لغز غامض أو مأزق مبهم أو ورطة مستعصية فجأة وبدون مقدمات , بمساعدة العقل الباطن الذي يعمل نتيجة لقوة الأهداف التي نسعى لتحقيقها . فالعقل الباطن يخزّن المعلومات والأفكار والذكريات والصور والانفعالات والمشاعر التي تنتقل من مستوى الشعور إلى اللاشعور , ويُعاد استرجاعها مرة أخرى إلى الشعور بطرق مختلفة . أو أن القائم على حل مشكلة يضعها جانباً ويقوم بعمل آخر ... كأنما اتخذ لنفسه إجازة من التفكير في المشكلة , وفي هذه المرحلة يتحرر العقل من كثير من الشوائب والأفكار التي لا صلة لها بالمشكلة , وهي تتضمن هضماً عقلياً شعورياً ولا شعورياً , وامتصاصاً لكل المعلومات والخبرات المكتسبة الملائمة التي تتعلق بالمشكلة , وهي مرحلة الاختمار التي تسبق وتمهد لمرحلة الإشراق المفاجئ , وهي اللحظة التي يولد فيها الحل أو الفكرة الجديدة .
وفي الختام قد تكون هذه الظاهرة من وحي العقل الباطن فعلاً ، ولكنها قد تكون في حالات أخرى من وحي الشيطان وتفكيره ، فعندما يُفكّرُ الشيطان في غواية الانسان وفتنته يكون مدخله إلى ذلك الانسان نفسه ، فيوحي إلى عقله ويوسوس في نفسه ما يريد من الشر . ومن المحتمل أن الفتن المظلمة ،والصراعات الدموية ،والحروب المدمّرة ،التي أصابت بلاد العرب والمسلمين مؤخراً ،من كيد الشيطان وتدبيره وتفكيره ، أوحى بها إلى اتباعه شياطين الإنس المتلبسين لثوب السياسة ،والمرتدين لعباءة الدين . أو على الأقل من تدبيرهما معاً ـ شياطين الإنس والجن ـ الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية