180-TRIAL- لو تمعنت جيدا في الأربع والعشرين ساعة التي تعيشها تحت الاحتلال، لاكتشفت انك خارج النص البشري، خارج الحياة المألوفة، وأنك في صراع وتوتر وصدمات متتالية، وانك قد تسقط في أي لحظة، أو تتغير في أي لحظة، وأنك بحاجة إلى صراخ أو غضب.
في الأربع والعشرين ساعة الماضية، طفح رأسي وعقلي بالأحداث والأخبار، وكلها دامية وقاسية، مفجعة، لا مجال للأسئلة ولا للأجوبة، مجهول على شكل وحش أمامك، لا رؤية ولا قرار، ولا موعد يلتزم معك في الساعة القادمة.
قالوا لي: نحن تحت الاحتلال، والحياة في ظل الاحتلال لها لونها ورائحتها وطقوسها وسلوكها المختلف، وعليك أن تكون مختلفا، متقشفا وحذرا، ومتواضعا قليلا، تستوعب أن للحرية ثمنا غاليا، والثمن أرواح وشهداء وأسرى وجرحى، هدم منازل، وشم الغاز، ورؤية المقموعين والمضروبين والملاحقين من المستوطنين وجهاز الشاباك والوحدات الخاصة والجواسيس.
وعليك في ظل الاحتلال أن تعتاد على رؤية الدم الغزير، والجثث المكومة فوق بعضها في غزة ، الأجساد المتناثرة والممزقة، صوت الثكالى والنازحين والضائعين الهائمين المرعوبين من الأطفال والنساء، أن ترى بلدك يحترق، أشجارك وأحلامك وأمنياتك، وان تنصب خيمة فوق ركام بيتك المهدم، وأن تتعود ايضا وبشكل مقلق على سماع أصوات الصواريخ والانفجارات ودوي القنابل في نومك ويقظتك وتؤجل النعاس، وأن تميز بشكل جيد بين صاروخ إنذاري وصاروخ حقيقي، بين صوت الطائرة الرنانة وصوت أل ف 16، بين قذيفة المدفعية وبين قذيفة البارجة الحربية.
ولأنك تحت الاحتلال فمن الطبيعي أن يقتحم جيش الاحتلال كل البيوت ليلا ونهارا، أن يدخلوا رام الله و نابلس والخليل وجنين، لا حصانة لأحد حتى النائبة خالدة جرار وحسن يوسف ومروان البرغوثي وأحمد سعدات و36 نائبا تم زجهم بالسجن، وأن تتوقع أن يسقط شهداء في المسيرات والمظاهرات حتى لو كانت سلمية جدا، لا رحمة للأطفال في ظل الاحتلال، لا رحمة لمخيم عايدة الذي أغرقوه بالمياه العادمة القذرة، لا رحمة لبيت أمر والعروب وقلنديا وحوارة وقلقيلية والأمعري وبيت فوريك.
ولأنك تحت الاحتلال فأنت عضو في حركة تحرر وطني تقاوم من اجل الحرية والاستقلال والعودة، لهذا عليك تدريب عينيك على رؤية الحواجز العسكرية الثابتة والمتحركة، وان تؤجل أحلامك الكبرى، ومشاريعك الحياتية التي تحتاج إلى هدوء واستقرار وسلام وراحة بال، أن تعتاد على منعك من السفر، و العبث في جسدك عميقا في التفتيشات، وتبلع الاهانة والمسبة، وذل النساء الملغومات بالاحجيات والحكايات، يخشاهن جيش الاحتلال.
يسألني صديقي: هل انتم شعب تحت الاحتلال؟ قلت: نعم! فنظر إلى وجهي وحولي ورآني جميلا متبلدا، اقرأ الأحداث كأنها بعيدة عني، أعداد الشهداء التي فاقت الألفين في غزة، وأعداد النازحين التي زادت عن نصف مليون، وأعداد الجرحى التي تخطت العشرة آلاف، وأعداد الاسرى التي زادت عن السبعة آلاف، أعداد المستوطنين التي زادت عن أل 500 ألف في الضفة، مصادرة الأراضي المحمومة وارتفاع مباني المستوطنات الزاحفة، والتي وصلت إلى غرف نومنا، ويبدو كل ذلك طبيعيا ومألوفا ومتعايشا معه، ما دمنا نحارب بالشعار والنرفزة والتفوق في التحليل والنقاش، وبقليل جدا من التكلفة: المراهنة على أمريكا، وكسل في المشي فوق الأرض.
أربع وعشرون ساعة تحت الاحتلال، قلت لصديقي: يبدو أني مصهور في هذه الحالة، ذبت في سيولة الوجع إلى درجة لم اعد أتوجع، مخدر من فائض الإبر الاحتلالية المؤلمة حتى زال الألم، نسيت شوارع القدس التي ضاعت فيها الجغرافيا والتاريخ والعبادة والملامح ، اعرفها من السور والصور والذاكرة، وقصص صلاح الدين وصفرونيوس في المدرسة.
قلت: لم نعد عبئا على المحتلين، لنا حكومة ووزراء وبرلمان ونشيد وعلم، ورواتب وسيارات وعلاقات عامة إقليمية ودولية ، ومئات القرارات المناصرة لنا، ولنا فضائية ومئات المحطات المحلية، يأتينا الماء في المواسير مسروقا ومنهوبا، وتأتينا الكهرباء مرتفعة الأسعار، وتأتينا الجلطات اليومية وارتفاع السكري، لا نستطيع دفع أقساط الجامعة، نقع كثيرا في الأخطاء الطبية ونسامح، نستوعب رويدا رويدا أن نكون مكبا للمنتوجات الإسرائيلية التي يتنافس كبارنا على وكالاتها، ترتفع أسعار سجائر الفقراء الطفرانين، وتنهال الضرائب، ونصطف طوابير أمام الإدارة المدنية العسكرية لأجل تصاريح للسفر أو العلاج أو الخروج من مناطق ألف إلى C ومن خارج الفضاء والجدار والدائرة ، وأن رفضت طلباتنا نهرب أجسادنا وأحلامنا، ونتحايل على الواقع بخيالنا الفلسطيني الذي لم يعد يصدقنا.
أربع وعشرون ساعة تحت الاحتلال، وغزة تموت ثم تموت، الوطن يخرج من الحقيقية والروح ويرمى في العبث، لم نعد نحمله حتى في حقيبة إن أردنا، ولم نعد نحمله في الموقف الذي أثقل تشابك المصالح المتعددة، والتي ترى أن العدوان على غزة منفصل عن العدوان على الضفة، وأن الضفة فيها استقرار ومؤسسات وعقارات وسوق ومقدمة للدولة، كما يقول البنك الدولي وهو يحتجز الناس في الصراف الآلي كل آخر شهر، أو كما يقول حاجز قلنديا للمسافرين ساعة الظهيرة.
أربع وعشرون ساعة تحت الاحتلال، جلست في مقهى أمام مخيم الدهيشة، رأيت جنود الاحتلال يهاجمون البيوت والأولاد، ورأيت مكبات الزبالة ورائحتها تملأ أنوف البشر، رأيت شبانا بعمر الورد عاطلين عن العمل يتسكعون ويتشاجرون ويسهرون ويقهرون شبابهم، ورأيت موكبا لأحد المسؤولين يمر بسرعة وقد أغلق شبابيك سيارته، ورأيت بنايات شاهقة تطل من مدينة الخضر وارطاس، تتقدم نحوي، قالوا: هي مستوطنات إسرائيلية، وهي القدس الكبرى.
نظرت إلى مدينة بيت جالا، رأيتها قفصا مغلقا، لا زيتون ولا مشمش ولا أودية، تقف فوق جبالها مستوطنة "جيلو" كضبع مفترس ، ورأيت المسيح في بيت لحم يعود مشيا حافيا مقيدا إلى خشبة الصليب، دمه يملأ كؤوس الآخرين، لا تعرفه المدينة، يتوه، أين المذود ؟! أين العذراء وشجرة الميلاد؟! وأين البئر والخبز والعسل، والصلاة في الليلة الاخيرة؟؟
على مقهى في مخيم الدهيشة دخنت كل سجائري، شربت قهوتي، سمعت صافرات تدوي، نظرت إلى غزة، والى يافطات على جدران المخيم من صور أسرى وشهداء وشعارات عن حق العودة، شعرت أني ميت أو سأموت، أو انا حي وميت، لا أدري.
على مقهى في مخيم الدهيشة، ذكروني بالحكايات القديمة، قالوا: كانت قرية فلسطينية صار اسمها أفرات، كانت قرية فلسطينية، صار اسمها معاليه ادوميم، كان فيها كوشان وأسماء، وطابون ورائحة بشرية.
واسهبوا: ويوما بذات الخليل، ويوما بذات الجليل، ويوما بيافا وحيفا، ويوما في اللد وعكا والولجة، ويوما بدير ياسين والدوايمة والمجدل والمسمية ، ويوما هنا أمام هذا المخيم، بلا شكل وبلا ظل وتحت سماء منخفضة.
على مقهى في مخيم الدهيشة، رأيت الاحتفالات العديدة، مهرجانات التأبين للشهداء، أفراح الإفراجات عن الاسرى، الموت والزواج، الأناشيد الفصائلية العديدة، الفقراء الغاضبين على انقطاع المياه، والدة الأسير محمود ابو سرور محمولة على نعش إلى المقبرة، قتلوها بعد 30 عاما من الانتظار، ولم يفرجوا عن ابنها في الدفعة الرابعة.
أربع وعشرون ساعة تحت الاحتلال، تحت ضغط الدم وتوالي الشهداء كل لحظة في غزة والضفة، وتحت ضغط الاكتئاب السياسي على الأرض، حالات انتحار تتصاعد ، قتل نساء باسم الشرف والقبيلة، أطفال يتسربون من المدارس إلى الورش والشوارع، طابور عمال منذ ساعات الفجر أمام حاجز إسرائيلي ، ينتظرون العبور بإشارة من إصبع جندي أو طلقة بندقية، استنكارات دولية لإعدام طفلين أمام سجن عوفر على يد جنود الاحتلال ، وهناك انفجرت الشرايين والكاميرات والصور، شهادات أطفال القدس في غرفة التحقيق رقم (4) بالمسكوبية، تعذيب وتنكيل وصراخ أولاد سلوان والعيسوية، تصاعد الاعتداء على يد عصابات (دفع الثمن) للمستوطنين الحاقدين، خطف وحرق الطفل محمد ابو خضير حيا، عاد هتلر وغابت العدالة الدولية.
على مقهى في مخيم الدهيشة تذكرت سميح القاسم الذي قال لي: علمني القاتل أن انبش الجرائد اليومية أن احصي القتلى على جدرانها السود وان انتظر البقية.
فمتى يا أخي الشهيد سميح نطلق ما تبقى من موتنا عليهم ثم نموت؟ 38

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد