كيف شكلت مخرجة ألمانية طريقة رؤيتنا للألعاب الأولمبية؟
برلين/سوا/ هل يشكل فيلم "أولمبيا" للمخرجة الألمانية ليني ريفينشتال دعاية للنظام النازي؛ أم أنه أفضل عمل سينمائي أنتج في التاريخ عن الألعاب الرياضية؟ الناقد السينمائي نيكولاس باربر يبحث هذا الأمر بشيء من التفصيل.
في فيلم "رَيس" (السباق)؛ وهو أحدث فيلم يتناول السيرة الذاتية للعداء الأمريكي الأسطوري جيسي أوينز؛ نشاهد هذا العداء (الذي يجسد دوره الممثل ستيفان جيمس) وهو على وشك المشاركة في سباق 200 متر عدو في إطار دورة الألعاب الأوليمبية التي جرت في برلين عام 1936، كما نرى المخرجة الألمانية ليني ريفينشتال (والتي تجسد شخصيتها الممثلة كاريس فان هاوتن) وهي على أهبة الاستعداد لتصويره في إطار فيلمها الوثائقي عن ألعاب الأولمبياد.
حينها، وبحسب أحداث الفيلم، يصر جوزيف غوبلز، وزير الدعاية في العهد النازي، على إيقاف التصوير، فهو لم يرغب في أن يشاهد العالم الرياضيين الألمان، الذين يمثلون نموذج القوة والفتوة والشباب الألماني الخارق الذي كان يروج له النازيون، وهم يُهزمون على يد رياضي أمريكي من أصل أفريقي.
لكن المخرجة الألمانية ريفينشتال لم تصغ لرفض غوبلز، وصممت على أن يخرج فيلمها الوثائقي عملاً يتضمن حقيقة خالدة ويتسم بجمال لا يزول، سواء وافق الزعيم النازي أدولف هتلر على ذلك أم أبى.
ولكن هل هذا ما حدث بالفعل؟ بدايةً؛ تضمن فيلم "أولمبيا" بجزئيّه الانتصارات التي حققها أوينز على منافسيه ذوي الأصل الآري. كما أن الفيلم نال إشادة واسعة حقاً باعتباره تحفةً سينمائية، أدت إلى حدوث تغير جذري في الطريقة التي يتم بها تصوير المنافسات الرياضية على الشاشة الكبيرة.
ففي عام 1955، أي بعد عقدٍ واحد فحسب من انتهاء الحرب العالمية الثانية، اختارت مجموعة من مخرجي هوليوود ذاك الفيلم، واحداً من أفضل 10 أفلام أُنتجت في تاريخ السينما على الإطلاق. لكن الجدل لا يزال قائماً بين المؤرخين السينمائيين؛ بشأن ما إذا كانت ريفينشتال قد تحدت هتلر وغوبلز بالفعل، في صيف كهذا الصيف قبل 80 عاماً، أم أنها كانت تنفذ ما يريدانه بحذافيره.
على أي حال، ليست كل أفلام المخرجة الألمانية، واسمها الكامل إليني برتا أمالي ريفينشتال، مُحاطة بكل هذا الغموض، فالأمر أكثر وضوحاً بالنسبة لفيلمها السابق مباشرةً لـ"أولمبيا"، وهو عمل يحمل اسم "انتصار الإرادة"، ويشكل الإنجاز الأشهر لها.
ويمثل ذلك الفيلم سرداً آخاذاً ومُفعماً بالإثارة على نحو مروع لمؤتمر الحزب النازي الذي عُقد في مدينة نيورمبرغ عام 1934، وما شهده من مسيرات وعروض عسكرية.
واكتسي "انتصار الإرادة" بحيوية فائقة وجاذبية شديدة، كما أن له طابعاً مهيباً وانطوى على طموح بالغ، وهو ما جعله يحتل المركز التاسع عشر في استطلاعٍ أجرته مجلة "سايت أند ساوند" عام 2014، لأفضل الأفلام الوثائقية في التاريخ.
ولكن على الجانب الآخر؛ يشكل الفيلم أحد أعمال الدعاية النازية البارزة والضخمة؛ إذ يبدأ بعبارة مدوية تتحدث بتفاخر، عن "ولادة ألمانيا من جديد"، بل إنه يذهب إلى حد الإيحاء بأن هتلر ليس إلا منقذاً إلهياً لألمانيا.
ولم تكتف ريفينشتال بعدم الإقرار قط بأنها كانت تقصد إيصال هذا المعنى، بل إنها اعترضت – لاحقاً - على الانتقادات الموجهة إليها في هذا الشأن بالقول: "كل شيء فيه (الفيلم) حقيقي، ولا يتضمن على الإطلاق أي تعليق مغرض للأحداث. إنه تاريخ. وهو فيلم تاريخي ليس إلا".
"سيطرة كاملة"
ولكن هذا "الفيلم التاريخي ليس إلا" شكّل بالنسبة "للفوهرر" مبعثاً للسرور البالغ، ما حدا به إلى أن يكلف المخرجة الشابة وقتها بمهمة أكبر وأكثر تكلفة؛ وهي إخراج "أولمبيا" بجزئيّه: "أولمبيا: مهرجان الأمم" و"أولمبيا: مهرجان الجمال". ولم يكن الجزءان مجرد توثيقٍ لوقائع أولمبياد برلين؛ وإنما تأملٍ لكل ما تعبر عنه الألعاب الأولمبية، وكذلك لكل ما يمكن أن تنجزه ألمانيا.
وفي كتابه الجديد حول الاولمبياد، والذي حمل اسم "ذا جَيمز" (الألعاب)؛ قال الكاتب دافيد غولدبلات إن فيلم "أولمبيا" حطم "قالب الأفلام التي تتناول الألعاب الأولمبية في نواحٍ عدة.
أولا: حظيت ريفينشتال بقدرٍ من الدعم الفعال من قبل المنظمين، بشكل لم يتوفر قط لسواها من المخرجين. كان من حقها الدخول لكل مكان، وتمتعت بسيطرة وتحكم كامليّن، وفريق عمل كبير وميزانية ضخمة؛ بما لا يقاس.
وثانياً: لم يكن هناك أي عمل آخر يضاهي هذا الفيلم، فيما يتعلق بالتطور التكنولوجي وحرفية الفن السينمائي.
ويبدأ الجزء الأول من الفيلم بجولة ذات طابع متأمل بين أطلال وتماثيل الحضارة الإغريقية القديمة، التي تغمرها سحب الدخان. ثم تتحول هذه التماثيل والأطلال إلى رياضيين وراقصين عراة، بينهم المخرجة نفسها.
بعد ذلك، يطوف بنا الفيلم عبر الزمان والمكان، حتى يصل إلى إيقاد المرجل الأولمبي في برلين. ويجدر بنا هنا ذكر أن تقليد إيصال الشعلة عبر عدائين يحملونها تباعاً إلى المرجل، ابتكر خصيصا لتلك الدورة.
وبعدما يستعرض الفيلم حفل الافتتاح الضخم المهيب، تتسارع وتيرته، مُتنقلاً بشكل رشيق خاطف، بين المنافسات والأحداث المختلفة داخل الملعب الأولمبي وخارجه، ليمضي بسرعة من حدث بارز إلى آخر أكثر منه روعةً وإثارةً للذهول.
ووسط كل ذلك، يبقى زخم العمل في ذروته، دون أن يتراجع قط، كما يتواصل دون توقف التعليق ال حماس ي المصاحب للقطاته، والموسيقى المثيرة للحماسة المواكبة لها، والتي وضعها هربرت فيندت.
فخلال المشاهد الحافلة بالبهجة والنشاط والمغمورة بأشعة الشمس، تلك التي صممتها ريفينشتال خصيصاً لمشاهد "أولمبيا"، نجد أن المواكب شديدة التعقيد من الوجهة اللوجستية – سواء كانت تجمعاتٍ ذات طابع سياسي أو مهرجانات واحتفالات رياضية – تتحرك بدقة تضاهي دقة عقارب الساعة، دون توانٍ أو حدوث أيٍ مما يخيب الآمال، وهو ما يجعل كل لحظة في الفيلم عامرةً بالمتعة.
وإذا اعتبرنا أن ما قاله المخرج الشهير ألفريد هتشكوك يوماً من أن الدراما ما هي إلا الحياة بعدما اقتُطعت منها اللحظات المملة؛ يصلح معياراً لتقييم العاملين في صناعة السينما؛ فإن بوسع ريفينشتال الوقوف جنباً إلى جنب أي كاتب مسرحي عمل يوماً في هذه الصناعة، بناء على ما قدمته في "أولمبيا".
لكن العيب الوحيد الواضح للغاية في هذا الفيلم، يتمثل في عدم اكتراث مخرجته كثيراً بعنصر المنافسة في الألعاب الأوليمبية. فلم تُعنَ بخلق أجواء من التوتر والترقب، قبل الإفصاح عن هوية من سيُكلل بالنصر في أيٍ من منافسات الدورة.
فقد كان هاجسها الوحيد هو أن تُظهر هذه المنافسات بشكل سينمائي فريد؛ عبر لقطات تمضي بسرعة بطيئة، أو أخرى تلاحق رياضياً بعينه خلال حركته، أو من خلال تصوير لقطات العمل بعدد مذهل من الزوايا. فضلاً عن هذا وذاك؛ فقد عَمِدت المخرجة إلى تصوير لقطات مقربة للغاية؛ أُنجِزتْ بعد انتهاء الدورة، ثم تم وضعها ضمن سياق الفيلم بين اللقطات التي صوِّرت خلال المنافسات.
وقد بلغ هذا النهج، الذي يركز على جمال الصورة بشكل متطرف، ذروته في مشهد بديع وساحر للمتنافسين في رياضة الغطس العالي، وهو مشهد نفذ عمليات المونتاج الخاصة به؛ المونتير هانس إرتل.
فما يبدأ وكأنه مجرد توثيقٍ مباشرٍ لغطسات المتنافسين، يتحول شيئاً فشيئاً إلى أمرٍ أكثر تجريدية مُفعمٍ بالوجد والنشوة، إلى أن يصبح أشبه برقصةٍ للباليه تجري في الجو، أو عرضٍ للألعاب النارية. بل إن ريفينشتال تنفذ أحد هذه المشاهد، بحيث تمضي فيه الأحداث بشكل عكسي، لنرى أحد الغطاسين يثب خارجاً من الماء، ليحلق في الهواء.
ولكن كلما بدأت في الاستغراق تماماً في ما تشاهده على الشاشة، يُعيدك إلى الواقع بغتة وبشكل عنيف، مشهدٌ لهتلر جالساً على منصة عالية في المدرجات؛ إما مُصفقاً ومُهللاً، عندما يبلي الرياضيون الألمان بلاءً حسناً، أو ناقراً بأصابعه على ركبتيه اللتين يكسوهما زيه العسكري، حينما لا يكونون كذلك.
ويعتبر منتقدو ريفينشتال أن هذه الفواصل الواضحة بين المشاهد التي تركز على الأولمبياد نفسها، لم تكن سوى حيلة مدبرة لإضفاء مسحة إنسانية على ديكتاتور وحشي. لكن هذا يشكل اتهاماً يستحيل إثبات صحته. فبالنسبة لمن لا يعلمون الكثير عن الزعيم النازي، لا تعدو هذه المشاهد سوى أنها تقدم هتلر كما هو، بلا زيادة أو نقصان.
بجانب ذلك، فمما يعزز دفاع ريفينشتال عن نفسها في هذا الصدد، كونها قدمت أوينز في فيلمها بشكل إيجابي محض. فقد وصفه المعلق الصوتي على الأحداث، مراراً وتكراراً، بأنه "الرجل الأسرع في العالم".
كما أن العداء الأمريكي لم يُقدم وهو يفوز بأربع ميداليات ذهبية فحسب، وإنما وهو يبتسم بكل ابتهاج أمام الكاميرا بعد كل مرة يحقق فيها هذا الإنجاز. ولم يُخلّف أي رياضي آخر ظهر في هذا الوثائقي، تأثيراً يقارب ذاك التأثير الغامر الذي تركه أوينز. كما أن هذا العداء لم يكن الرياضي الوحيد أسود البشرة الذي ظهر في "أولمبيا".
وعلى أي حال، فإن استحواذ هاجس الأصل العرقي على صناع الفيلم، يبدو مزعجاً، في ضوء علمنا بالأفكار التي كانت سائدة في ألمانيا النازية في هذا الصدد. فالمعلق الصوتي يشير في أحد المشاهد، إلى أن من بين المُصْطَفين على خط البداية لنهائيات سباق 800 متر "عداءيّن أسوديّن ضد أقوى ما في العرق الأبيض" من عدائين.
لكن التأكيد على هذا العنصر العرقي؛ له جوانبٌ مدمرة أيضاً بالنسبة لصناع الفيلم. إذ أن "العداءين الأسودين" – جون وودروف وفيل إدواردز – ينهيان السباق في المركزيّن الأول والثالث على الترتيب. ومن العسير هنا، أن نتصور كيف يمكن أن يكون مشهدٌ مثل هذا قد خدم قضية النازية وأفكارها.
نظرية الألعاب
وبقدر ما يُمجد فيلم "أولمبيا" ألمانيا، فبمقدور المرء – بالدرجة ذاتها وبسهولة أيضا – أن يراه احتفاءً بأمريكا متعددة الأعراق. فمرة تلو أخرى، تركز مخرجته على نصرٍ حققه رياضي أمريكي.
وفي مناسبتين مختلفتين؛ تضع لقطةً لعلمٍ أمريكي مرفرف، فوق أخرى تُظهر رياضياً أمريكياً حسن المظهر، وهو يبتسم مُتوجاً بميدالية. فمع أن ريفينشتال ربما كانت تريد إثارة إعجاب هتلر؛ فإنها كانت في الوقت نفسه تضع نصب عينيها إمكانية أن تشق طريقها وتعمل في هوليوود.
لكن ذلك لم يتحقق. فبُعيد وصولها إلى نيويورك، في نوفمبر/تشرين الثاني 1938، للترويج لفيلم "أولمبيا"؛ بلغت مسامع الأمريكيين أنباءُ ما يُعرف بـ"مذابح ليلة الكريستال"؛ تلك الليلة التي شهدت إضرام النيران في أكثر من ألف معبد يهودي في مختلف أنحاء الرايخ الألماني، بجانب تدمير وتخريب آلافٍ من المحال والمؤسسات التجارية المملوكة لليهود، وكذلك اقتياد نحو 30 ألفاً من اليهود إلى معسكرات الاعتقال.
وبعدما قالت المخرجة الألمانية للصحافة الأمريكية، إنها لا تصدق التقارير المتعلقة بما جرى في تلك الليلة؛ لم يرغب أيٌ من مديري شركات الإنتاج السينمائي في هوليوود في الالتقاء بها، باستثناء والت ديزني.
بعدها؛ عادت ريفينشتال إلى ألمانيا، لتبدأ العمل في عمل ملحمي درامي يحمل اسم "لو لاندس" (الأرض الواطئة)، والذي استخدمت فيه مجاميع من الغجر، وهي المجاميع التي قيل – في سياق دعوى قضائية رُفعت عام 2002 - إنها أُرسلت إلى معسكر أوشفيتز فور انتهاء التصوير. (وقد أُسقطت هذه الدعوى بعدما تراجعت المخرجة عن تصريح علني، يزعم بأن كل هذه المجاميع نجت من أهوال الحرب).
وبعد انتهاء الحرب عام 1945؛ عاشت هذه المخرجة حياة طويلة وغريبة في الوقت نفسه. فلم تُدنْ بالانتماء إلى الحزب النازي، وظلت تقاضي – بانتظام – كل من قال ما يخالف ذلك. غير أنها لم تستطع التخلص من وصمة هتلر.
فرغم أنه يُشاد بها؛ باعتبارها واحدة من أعظم مخرجي العالم على الإطلاق، فإنها لم تُخرج بعد عام 1945؛ سوى فيلمٍ واحد، حمل اسم "أندر ووتر إمبرشينز" (انطباعات ما تحت الماء). المفارقة، أن ذلك جرى عام 2002، أي قبل عامٍ واحد من وفاتها، عن عمرٍ ناهز مئة وواحداً من الأعوام.
منذ ذلك الحين، يتفق كُتاب سيرتها الذاتية، على أن علاقتها بهتلر وغوبلز، كانت أقوى مما كانت تحب أن تصرح به. ولكن من الخطأ أن نشجب "أولمبيا"؛ مُعتبرين إياه في الأساس فيلماً نازياً. إذ أنه ليس كذلك.
ففي واقع الأمر، تضرب الخصائص والسمات التي يبرزها، والمشابهة للغاية لتلك الصفات التي تحتفي بها الأفكار النازية؛ بجذورها في صلب الفكرة الأولمبية؛ مثل تقديس الكمال البدني إلى حد العبادة، واستحضار الماضي الغابر الأسطوري، وتقسيم العالم إلى دول مختلفة متنافسة يرفرف على كل منها علمٌ خاصٌ بها.
فالحقيقة المزعجة هنا تكمن في أن الرموز والصور الذهنية التي تعبر عن الأفكار المرتبطة بالألعاب الأولمبية، ليست بعيدة للغاية قط عن نظيراتها النازية؛ بغض النظر عما إذا كان لريفينشتال دورٌ في هذا الأمر أم لا.