كان من الصعب تصور أن تستمر المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني في العمل بمنطقة في غاية الصعوبة مثل غزة ، فالاحتلال من جهة يتربص ويراقب ويحرض ويتدخل في تفاصيل المشاريع، بل ويمارس كل ضغوطه على الممولين لجرها باتجاه لا يضر بمصالحه. ومن الجهة الأخرى، غزة المحكومة من قبل « حماس » المسكونة بهاجس المؤامرة وعقدة الاضطهاد، والتي تتابع وتراقب وتحاسب، ولم تتوقف جهات معينة فيها عن التضييق على كثير من المؤسسات التي أغلقت أبوابها، مثل: «شارك» الشبابية، و»الهيئة الفلسطينية للتنمية البشرية»، وغيرها. 
في بداية حزيران، تم تسريب خبر صغير من قبل الأمن في غزة  يفيد بأن هناك مؤسسات دولية تعمل لصالح الاحتلال أمنياً وتقوم بمراقبة مواقع المقاومة، وقد شكل ذلك ضربة كبيرة لتلك المؤسسات التي أصيبت جميعها بهوس الخوف،  ولا نعرف حتى اللحظة هل هناك أشخاص متهمون وضبطوا متلبسين وستتم محاكمتهم أم أن وراء التسريب شيئاً آخر؟ 
لكن في اللحظة التي بدأت فيها تلك المنظمات تعيش حالة الاضطراب.. تنظر لنفسها وينظر لها الناس بشبهة كبيرة، تلقت الضربة القاضية من قبل إسرائيل باعتقال مدير منظمة الرؤيا العالمية محمد الحلبي، ووجهت له سيلاً من الاتهامات الكفيلة بالإطاحة بكل المؤسسات ووضع حد لتمويلها الذي تتلقاه، والتهمة الأبرز هي تحويل جزء كبير من أموال المؤسسة لصالح حركة «حماس» وصرف مساعدات لعائلات مؤيدة للحركة. 
في التهمة الموجهة للحلبي ما يستدعي النقاش لتعرية الراوية الإسرائيلية التي زعزعت ثقة الممولين بالمؤسسات العاملة في قطاع غزة، بل وأدت إلى وقف مبالغ مالية كبيرة كانت في طريقها لتلك المؤسسات. 
فقد اتهم منسق شؤون المناطق الجنرال يوآف مردخاي محمد الحلبي بأنه قام بتحويل عشرات الملايين من الدولارات لحركة «حماس» خلال السنوات الماضية، لترد المؤسسة ببيان رسمي، بأن المبالغ التي تلقتها مؤسسة الرؤيا كموازنة، خلال السنوات العشر الماضية، أقل بكثير من الأرقام التي تتحدث عنها إسرائيل، وهذا وحده يطرح علامات استفهام حول الادعاء الإسرائيلي. 
أما فيما يتعلق بصرف مساعدات لعائلات من «حماس»، كأن إسرائيل تريد من تلك المؤسسات أن يكون لها أجهزة أمن تقوم بفرز انتماء العائلات. 
عائلات «حماس» مثلها مثل باقي سكان قطاع غزة، من العائلات التي يطحنها الفقر. ولو قامت تلك المؤسسات بالتوزيع بشكل انتقائي فإن ذلك سيشكل ضربة لمصداقية عمل ومعايير تلك المؤسسات وستتهم بأنها تعامل بانتقائية عنصرية لا تخدم سوى الاحتلال. وهذا سيضعها في موضع شبهة نحن لن نقبل لها بأن تكون كذلك، ولا المؤسسات تقبل بالعمل وفقاً للمزاج الإسرائيلي. 
لم تتوقف إسرائيل عند اتهام مؤسسة الرؤيا العالمية، وهو اتهام ضعيف لا يستوي مع ما أوردته المنظمة الدولية من أرقام، ولكن ذهبت أبعد لاتهام مؤسسة ميرسي كور، والاتهام هو لشخص بعينه كان قبل شهرين فقط يمر عبر حاجز «إيرز»، ثم اعتقلت موظفاً دولياً يعمل في مؤسسة UNDP بتهمة لا ترقى إلى المنطق، حيث قالت: إنه كان يعمل في إزالة الركام لصالح المؤسسة ولكنه كان يقدم معلومات لـ»حماس» عن فوهات الأنفاق تحت البيوت المهدمة.. يا للسخرية!! وكأن «حماس» التي حفرت كل الأنفاق بأيديها وتحفظ أماكنها عن ظهر قلب لا تعرف أنفاقها وهي بحاجة إلى موظف دولي ليدلها عليها..! 
واضح أن هناك اجتياحاً إسرائيلياً لتلك المؤسسات، ويعزز هذا التحليل ضعف تماسك الرواية الإسرائيلية، وبالرغم من ملاحظاتنا على طبيعة برامج عمل المؤسسات العاملة في قطاع غزة وهي برامج إغاثية وليست برامج تنموية. 
الهجمة الإسرائيلية هي على هذا القطاع المحاصر. وبغض النظر عن طبيعة المشاريع التي يتم تنفيذها، إلا أن هذه المشاريع هي عبارة عن أموال تأتي لقطاع غزة وتساهم في إبقائه قيد الحياة. 
الحقيقة أنه لا مكتبة واحدة أنشأتها المنظمات الدولية وحتى المحلية، ولا عيادة صحية واحدة أو مركزاً طبياً. وفقط كل المشاريع مصممة للاستهلاك من كنس الشوارع وتدريب ثم تدريب وترفيه وغيره حيث يتبخر جدوى المشروع لحظة انتهائه. نحن نرى ذلك بوضوح، ولكن نقول: أي شيء أفضل من لا شيء. 
وهنا يجب الإشارة إلى مؤسسة التعاون الممولة من قبل رجال أعمال فلسطينيين والهلال الأحمر الكويتي والقطري، فهي وحدها تعمل في مشاريع البنية التحتية مثل المياه والصرف الصحي و فتح الشوارع، وقد تمكنت هذه المؤسسات من تحويل منطقة جحر الديك إلى منطقة قابلة للحياة بفعل جهودها في تمديد مياه الشرب وشبكات الصرف الصحي. 
كان يجب على «حماس» أن تنتبه لهذا التربص الإسرائيلي .. وأن تكف عن ملاحقة ومضايقة المؤسسات العاملة ومنظمات المجتمع المدني. فقد لاحق الأمن كثيراً من موظفيها حتى في خصوصياتهم كما حدث مع «شارك» قبل الإغلاق وغيرها، وكلما زرت واحدة من تلك المؤسسات لا تخلو الزيارة من الشكوى ضد مدير عام الجمعيات بوزارة الداخلية .. كان على «حماس» أن تترك مسافة ومساحة تراقب من بعيد، لا أن تتدخل بالتفاصيل والتقارير، وهي تعرف أن ممولي تلك الجمعيات يمنعونها من الاحتكاك بنظام الحكم في غزة وإلا الإغلاق، وقد أغلق كثير منها، ومع ذلك لم يتوقف مراقب الداخلية عن الملاحقة إلى أن وصلنا إلى اللحظة التي تنتظرها إسرائيل وهي تهمة تدخل «حماس» في تلك المؤسسات. 
النظام المالي في تلك المؤسسات الدولية صارم إلى الحد الذي لا يسمح بتسريب كل تلك الأموال لـ»حماس» .. تلك فرية إسرائيلية بحاجة إلى تدقيق وكشف تعززها رواية المؤسسات الدولية. وليس من الطبيعي أن يأخذ العالم كل ما تقوله إسرائيل بثقة؛ لأنها جهة تمارس الحصار وهدفها تشديد الخناق، خصوصاً أنها باتت تدرك أن الساحة الفلسطينية لم تعد المنطقة الوحيدة التي تحتاج المساعدات، فهناك مناطق منكوبة أخرى مثل ليبيا وسورية واليمن، وقد قامت كثير من المؤسسات الدولية بتحويل جزء من مواردها إلى هناك. هذا كان واضحاً منذ 2010، ولم يعد يصل فلسطين إلا القليل. وها هي إسرائيل تضرب ضربتها الكبيرة مستغلة سلوك «حماس»، والتي لم تتوقف هي الأخرى عن التضييق على تلك المؤسسات . 
لكن السؤال، حتى لو افترضنا عبثاً أن كل تلك الاتهامات كانت صحيحة، وأن إسرائيل تعرف ذلك، لماذا سكتت كل تلك الفترة الطويلة، فالاتهامات عمرها سنوات والحلبي وزملاؤه يتنقلون بحرية عبر معبر إيرز. لماذا تفتح إسرائيل الملف الآن بالذات؟ ولماذا لم تفتعل المشكلة سابقاً؟ الأخطر في الموضوع هو التوقيت.. هل يشكل مقدمة لشيء ما؟! 

Atallah.akram@hotmail.com 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد