مما لا شك فيه أن قطاع غزة يشكل عبئاً مؤرقاً وهماً مستمراً ومتعاظماً يقض مضاجع مجموعة لا بأس بها من الدول في منطقتنا والعالم، في مقدمتها بكل تأكيد دولة الاحتلال "إسرائيل" نظراً للخصوصية الغريبة والعجيبة التي تشكلها هذه البقعة الضيقة من المساحة(365كم2) المحشوة عن آخرها بقرابة مليوني نسمة حيث يشكل القطاع المنطقة الأكثر كثافةً بالسكان في العالم مقارنة بين المساحة وعدد السكان.

هذا الأرق مستمر ومتواصل وممتد منذ أن وجد قطاع غزة ككيان سياسي مستحدث على إثر وقوع نكبة فلسطين سنة 1948م،  وليس هناك أدل من صورة وشكل وطبيعة هذا الأرق المتأزم والمتواصل ما صرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل اسحق رابين عندما قال وكان حينها وزيراً للدفاع : " أتمنى أن أستيقظ من نومي فأجد البحر قد ابتلع غزة " ، بهذه الكلمات القليلة لخص "رابين" معاناة دولته وغيرها ممن يسير في ركبها من وجود هذا الكيان المسمى " قطاع غزة "، الذي لا يوجد حتى يومنا الراهن إجابة شافية ومنطقية من قبل الساسة والمؤرخين للسؤال الكبير: لماذا تشكل قطاع غزة بهذه الصورة وهذه المساحة ولم تستولِّ عليه دولة الاحتلال التي طاردت القوات المصرية لأبعد من العريش وحتى القنطرة وضفاف القناة عام 1948م، وتعمدت تجاوزه وعدم السيطرة عليه وتهجير من فيه كما فعلت مع أكثر من 500 مدينة وقرية فلسطينية استولت عليها وشردت أهلها.

منذ تشكل القطاع قامت الولايات المتحدة الحليفة الأبدية لإسرائيل بمعاونة دول أخرى عربية وغير عربية بمحاولات عديدة لطمسه وشطبه من الخارطة فأطلقت مشاريع التوطين التي استهدفت تفريغ القطاع من اللاجئين في عدة مناطق في العالم من بينها شبه جزيرة سيناء، ولكن هذه المشاريع والمؤامرات فشلت بسبب الوعي الكبير لسكان القطاع الذين وعوا درس النكبة جيداً وأصبح خنوعهم لتهجير جديد من ضروب المستحيل.

احتلت إسرائيل القطاع عسكرياً سنة1956م، لعدة شهور، وأعادت الكرة مرة أخرى سنة 1967م، حيث سيطرت عليه سيطرة مباشرة لمدة 27سنة متواصلة، فسعت خلال هذه السنوات سعياً حثيثاً مستميتاً لتفريغ القطاع من سكانه من خلال سلسلة من الإجراءات الخبيثة كان في مقدمتها شراء بطاقة الهوية لأي راغب من سكان القطاع ببيعها بمعنى من يريد الهجرة والخروج من القطاع تقوم بمنحه مبلغ كبير من المال ومنحه الجنسية الكندية أو الاسترالية أو السويسرية وغيرها ويقوم بتسليم بطاقة هويته ويغادر بلا عودة ؛ وعلى الرغم من هذا العرض المغري إلا أنه لم يلقَّ تجاوباً يذكر من سكان القطاع الذين تنامى وعيهم السياسي والوطني لأبعد الحدود وبات اقتلاعهم من مما تبقى من أرضهم ضرب من ضروب المستحيل إن لم يكن المستحيل بعينه!!   

مرت الأيام والسنون وتشكلت السلطة الفلسطينية وعاد من عاد وحكم من حكم ثم اندحرت السلطة من القطاع منتصف سنة2007 بعد صراعٍ دامٍ بين حركة فتح العمود الفقري للسلطة وصاحبة مشروع أوسلو وبين حركة حماس التي استثمرت بذكاء متناهي كل الأخطاء والتجاوزات التي وقعت في عهد سلطة فتح ، وتمكنت حماس من تحقيق نجاحين سياسي وعسكري حيث نجحت 2006م في الانتخابات التشريعية وسيطرت 2007على القاع سيطرة كاملة وأصبحت صاحبة اليد الطولى والكلمة الفصل في القطاع حتى يومنا هذا.

وحتى نصل إلى بيت القصيد علينا أن نقر ونعترف أن الأمس ليس كاليوم فقد أدى ما مرَّ به القطاع من أحداث وخصوصاً الأحوال السياسية التي عصفت به منذ قيام السلطة 1994م وحتى يومنا الراهن وما صاحبها من أحداث لا أقول مؤسفة أو محبطة فقط بل ومخزية أيضاً وفي مقدمتها الانقسام والتصارع المحموم بين قطبي الزعامة الفلسطينية (حماس وفتح) والتداعيات التي صاحبت هذا الانقسام ومهدت له من فساد وفلتان أمني وحصار وظروف اقتصادية مريعة وبطالة مستشرية بالإضافة إلى حالة الاستقطاب الحزبية ، وخيبات الأمل المتتالية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني ولا زال سواء على يد قيادته وزعامته أو بسبب المتغيرات الإقليمية والعربية والدولية التي شهدتها المنطقة ولا تزال متواصلة والتي كانت دون ريب ودون أدنى شك مخيبة للآمال وتصب جميعها ضد القضية الفلسطينية في شتى المجالات... كل ذلك أدى إلى إنتاج  جيل محبط يائس اختلفت لديه المفاهيم بصورة دراماتيكية لا تصدق فأصبح معه حلم الهجرة الطوعية والخروج من القطاع بأي ثمن هدف كبير يسعى إليه عشرات الآلاف من الشباب الذين وصلوا فعلا إلى مرحلة اليأس والإحباط ؛ يعني بكل بساطة بات الذي كان مستحيلاً بل ومستحيلاً جداً وما فشلت به إسرائيل ومن يدور بفلكها ودفعت لأجله الغالي والنفيس دون جدوى أمر وارد الحدوث وليس قسرياً هذه المرة بل طوعاً وحباً وكرامة... لماذا وصلنا إلى هذا الحد من اليأس لدرجة تدفع البعض للانتحار والبعض لركوب أمواج البحر في رحلات ليس لها نتيجة إلا الموت؟!! ولماذا لا تجد على ألستة في القطاع سوى الشكوى والتذمر والضجر واليأس والإحباط ؟ أنا أعتقد أن سكان القطاع أو لنقل تحرياً للدقة السواد الأعظم منهم فعلاً محبطون والأسباب كثيرة بل وكثيرة جداً ولكن إذا أردنا أن نلامس الجرح علينا أن نعترف ودون مواربة أن الاستئثار بمقدراتنا ومصيرنا وحياتنا من قبل حماس وفتح فقط وسيطرة الأولى على القطاع والثانية على الضفة وعدم وجود آفاق جدية لإنهاء الانقسام وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس من الشفافية والعدالة وعدم وجود آفاق لوجود حلول حقيقية أو حتى مزيفة للعديد من المعضلات والمشاكل الجسيمة التي تواجه الشعب الفلسطيني، حتى مشكلة انقطاع الكهرباء تتفاقم يوماً بعد يوم ولا تجد سعياً جاداً من أحد سوى كيل الاتهامات كل طرف للآخر والردح الإعلامي والشتائم عبر الفضائيات حتى أوصلوا الناس لمرحلة متقدمة من القرف وخيبة الأمل اللا محدودة. 

ختاماً وحتى لا ندفن رؤوسنا بالرمال ولا نستفيق إلا بعد أن يفرغ القطاع طوعاً من أبنائه أدعو من قدر الله لهم أن يتحكموا بنا أن يعيدوا حساباتهم وينحوا المصالح الحزبية الضيقة الأنانية جانباً ويضعوا المصلحة الوطنية العليا نصب أعينهم ويعيدوا ترتيب البيت الفلسطيني على أسس من العدالة والديمقراطية والأمانة ويتم صهر كل الجهود في بوتقة مصلحة الوطن وإنهاء الانقسام فورا ورفع شعار فلسطين للجميع والعدالة للجميع وخيرات فلسطين للجميع وإلا سيقوم المخططون من أعدائنا الذين يكيدون لنا ليل نهار في ساعة من نهار أو ليل بتفريغ هذا القطاع طوعاً من سكانه اليائسين المحبطين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد