نجح أردوغان في تحويل محاولة الانقلاب الفاشلة إلى رافعة جديدة يعزز بعدها حكمه ويقوي سلطته. فقد تتابعت الأخبار التي تحدثت عن التغيرات الكبرى التي تجري في صفوف الجيش وقيادته والمؤسسات الحكومية وحملات الاعتقال التي طالت الآلاف، فيما يشير إليه البعض بعمليات التطهير في مؤسسة الجيش والدولة والحديث عن تغييرات دستورية محتملة تساعد الرئيس التركي في مواصلة بسط يده على الدولة وتعزيز قوة الرئاسة على حساب مؤسسات الدولة الأخرى. 
ويكاد لا يمر يوم منذ محاولة الانقلاب دون أن تحمل نشرات الأخبار شيئاً عن تركيا يكون أردوغان قلبه ومحركه الأساس، في إشارة إلى تنامي دور الرئيس التركي في تحريك الأمور. 
بداية لننتبه إلى أنه في ظل غياب الرقابة الحقيقة، سيكون على أي شخص تدبر ضده محاولة انقلاب وتفشل، أن يذهب باتجاه تعزيز سلطته. بمعني أن أردوغان لم يبتدع ردة فعل جديدة في التعامل مع الوضع في تركيا بعد أن كاد أن يختفي عن الساحة لو نجح الانقلاب. وهذا ديدن الزعماء في المناطق التي تعاني من نقص في جودة الديمقراطية مثل تركيا. 
لكن الرجل لم يبتدع شيئاً فهو تعرض لمحاولة إقصاء عن السلطة نجح في صدها أو نجحت قوات أمنه في إفشالها بالتالي فهو يتصرف مثل الأسد الجريح الذي يريد أن يرعب الغابة ليس بزئيره فقط بل أيضاً بافتراس كل من حاول أن يعترضه.
بالطبع كان يمكن لأردوغان أن يتصرف بطريقة مغايرة تستند إلى تعزيز النظام الديمقراطي وتقوية مؤسسات الديمقراطية؛ لأنه فقط عبر الديمقراطية يمكن حماية الدولة ولأنه فقط إذا ما تم تعزيز قوة هذه المؤسسات فإن الدولة تكون أقوى. 
أردوغان لم يختر أن ينازل الانقساميين بلغة مضادة لما قاموا به، بل قرر أن يناولهم بلغتهم، أن يقذفهم بحجارتهم، أن يستخدم القوة في مواجهة قوتهم الواهنة. قرر أن ينقض أو ينقلب على مؤسسات الدولة باسم حماية الدولة وتمتينها في وجه محاولات الانقلاب عليها. 
صحيح أن الانقلاب كان يقصد السيطرة على الدولة ولكن أيضاً ردة فعل أردوغان أيضاً تسعي وراء نفس الهدف المتمثل في السيطرة على الدولة. تشابه بذلك أردوغان مع خصومه.
الخيار الآخر، كان يجب أن يرتكز على توسيع دائرة المشاركة ومحاولة احتواء الخصوم وتشجيعهم على المساهمة في صناعة القرار. كان يجب رد الجميل للمعارضة اللدودة لأردوغان المتمثل في حزب الشعب الذي وقف ضد الانقلاب وقال: إنه ضد أي تداول غير سلمي للسلطة قاطعاً بذلك الطريق أمام الانقلابين من أجل أن يستندوا إلى المعارضة في إدارة دفة البلاد لو نجح الانقلاب. بدا أن أردوغان كان سيفعل ذلك حين سمح للتلفزيون الرسمي أن يستضيف زعيم المعارضة الذي كاد أن ينفجر في وجه المذيع وهو يوبخ الإعلام الرسمي على تقصيره في استضافة المعارضة وفي فتح أبوابه أمامها. لكن حتى هذه الاستضافة كانت مؤقتة وكانت محاولة من أردوغان أن يكشف للناس عن أن الجميع ضد ما حدث. 
صحيح أن الجميع ضد ما حدث لكن ليس الجميع مع ما يقوم به من ردة فعل. كان يجب أن يتم احتواء الغضب القليل الذي يسري في أوساط بعض قيادات الجيش من تدخلات أردوغان الخارجية الفاشلة، خاصة في الملف السوري، لا أن يتم التفاعل بغضب مع ما حدث؛ لأن ما حدث شيء مرفوض بكل المقاييس، ليس من قبل أردوغان، بل من قبل كل محب ومدافع عن الديمقراطية. وبالتالي فهو ليس بحاجة لأن يقول: إن ما تم جريمة. إن أي تطاول على الديمقراطية مرفوض حتى لو كان في الرد على أعداء الديمقراطية والانقلابيين.
بالطبع، إن ما يقوم به أردوغان يخبرنا المزيد عن مستقبل السياسة التركية الخارجية، خاصة فيما يتعلق بعلاقة تركيا مع المحيط الغربي. فمن جهة، وربما سيكون هذا مرتكز مستقبل تركيا، فإن الإجراءات القمعية التي يتخذها الرئيس التركي ضد خصومه السياسيين وتعزيز سلطته على حساب الدولة ومحاولة تغيير الدستور حتى يمنح نفسه المزيد من الصلاحيات كل تلك الإجراءات ستمس منسوب الديمقراطية في البلاد التي تعاني من انخفاض هذا المنسوب، وبالتالي هذا سيعني أن أنقرة لم تعد تهتم أو أن أردوغان لم يعد يهتم كثيراً بردة فعل الاتحاد الأوروبي الذي يسعى لنيل عضويته.
هذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة لتركيا وبالنسبة للاقتصاد التركي ورجالاته الذين هم حلفاء لأردوغان الذي نجح في دفع الاقتصاد التركي كثيراً إلى الأمام.  
في حال إغلاق ملف الرغبة الأوروبية فإن الكثير سيتغير في تركيا، وسيكون على أردوغان أن يدرك أن الكثير من الدعم الذي يتلقاه من النخب الاقتصادية سيتفكك. 
عموماً أمر لصيق بذلك هو العلاقة مع واشنطن. ومن الواضح أن أردوغان يصعد في العلاقة مع أهم شريك لتركيا الحديثة وهو بذلك يجازف بتغير واحدة من أهم عقائد الجيش التركي. لم يعد الأمر مجرد رغبات، بل إن أردوغان يتهم واشنطن بدعم الانقلاب. 
التقارب مع موسكو الذي تم قبل الانقلاب سيستمر. العلاقة مع الناتو ستتغير. أردوغان يقوم بجملة تغييرات في قيادة الجيش وبالتالي ربما يمس مفاصل تأثير واشنطن في السياسة التركية، وربما سيكون عليه أن يجد نفسه في تصادم داخلي جديد ربما بعد زمن، لكن دون تثبيت النظام الديمقراطي بدلاً من اللجوء إلى القوة والبطش فإن الدولة لا يمكن أن تكون قوية. الدولة القوية هي الدولة التي يكون الفرد فيها قوياً والرجل الحاكم مجرد موظف مؤقت لدى الشعب وليس الشعب موظفاً أو عاملاً لدي الرئيس.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد