يحكى أن أثنين من الأصدقاء كانا يسيران معاً فأشار أحدهما إلى شيء أسود يقف فوق قمة جبل وقال لصديقه: هل ترى ذلك الغراب فوق الجبل؟ نعم لكنه ليس غراباً بل عنزة! أخذا يتجادلان في كون  هذا الشيء الأسود غراباً أم عنزة, وبعد قليل طار ذاك الشيء من فوق الجبل، فقال الصديق: رأيت ؟! ألم أقل لك أنه غراب , لو كان عنزة مـا طار! قال الآخر بإصرار:(عنزة و لو طارت) ... سقت هذا المثل لأنني أعتقد أن السلطة الفلسطينية ترى الحقائق الدامغة أمامها وخلفها وحواليها وتتعامى عنها بشكل مدهش وبصورة غريبة فهي تخطيء بشكل متعمد وتصر على ارتكاب الأخطاء تباعاً وتصرخ في وجوهنا جميعاً ... عنزة ولو طارت ...

فحكومتنا المبجلة يا سادة يا كرام التي نعلم جميعاً أنها حكومة الرئيس وأنها تنفذ توجهاته وتوجيهاته وقراراته أقدمت على اتخاذ قرار غير طبيعي وغير مبرر ستترتب عليه نتائج وخيمة العواقب ألا وهو قرار إجراء الانتخابات البلدية في شطري ما تبقى من الوطن وأقصد الضفة الغربية وقطاع غزة .

للوهلة الأولى قد ينعتني أحدهم وما أكثرهم ويتهمني بأنني غير ديمقراطي ونصير للديكتاتورية وضد تفعيل الحياة الديمقراطية الفلسطينية المعطلة منذ آخر انتخابات جرت وكانت للمجلس التشريعي الثاني مطلع عام 2006م، وضد تنفيذ استحقاق طبيعي مهم من استحقاقات الديمقراطية ! أرد على ذلك فأقول: إن حكومتنا الرشيدة ، عندما قررت إجراء الانتخابات البلدية كانت تعلم علم اليقين أن هناك انقسام مسموم مستمر ومتواصل منذ تسع سنوات تقريباً سممّ الأجواء ومزق الشرايين وفرق الكلمة وشتت اللُحمة وحول ما تبقى من الوطن إلى وطنيين، ورغم ذلك تقرر حكومتنا المجازفة بإجراء هذه الانتخابات وهي تعلم أنها ستؤدي حتماً إلى ارتفاع وتيرة الصراع بين قطبي الحياة السياسية الفلسطينية حماس و فتح ، وستدفع بهما إلى أتون ملتهب من الصراع الخفي والعلني لاستقطاب الناخبين والفوز بهذه الانتخابات بشتى الوسائل والطرق، فها نحن وعلى الرغم أن الانتخابات لم تبدأ رحاها بعد نسمع ونرى اتهامات واتهامات متبادلة بين مختلف الأطراف حماس تهاجم فتح وفتح تهاجم حماس وفتح عباس تتوعد دحلان ودحلان يتوعد فتح عباس ، والتنظيمات الأخرى إما بدأت تصطف مع طرف ضد الطرف الآخر وإما تقف خلف خطوط حلبة النزال تنتظر الفائز من هذا الصراع المحموم!!

أكثر ما يخيف في هذا القرار وأقصد قرار إجراء الانتخابات ليس الشقة التي ستتسع والصراع الذي سيتعاظم بين حماس وفتح جراء فوز أحدهما وخسارة الآخر بل الصراع المرتقب والمواجهة الخطيرة التي ستقع لا محالة بين رجالات فتح الموالين للرئيس محمود عباس وأولئك الموالين ل محمد دحلان ، وللتدليل على ما أقول لنعد بالذاكرة إلى أسابيع قليلة خلت حينما أجرت فتح انتخاباتها الداخلية فقد سمع وعلم الجميع أن مشاكل كبيرة وكبيرة جداً وقعت بين الطرفين وصلت معها لحد الاشتباك والضرب والتعارك واقتحام الاجتماعات، ومن هنا فأنا أعتقد أن الأمور مرشحة بقوة للتصعيد بين الطرفين ويمكنني القول بأسى وخشية وفي ضوء الحشد والاستقطاب الحاصل بين الطرفين منذ تم الإعلان عن إجراء هذه الانتخابات أنها ستصل إلى درجة كبيرة من التأزم والصراع يمكن أن يتمخض عنه تبعات خطيرة جداً وسيسقط نتيجتها ضحايا من كلا الطرفين وليس هناك ضمانة واحدة تضمن بعدم إراقة الدماء وحدوث ما لا يحمد عقباه !! مع الإشارة إلى أن حركة حماس المسيطرة في القطاع لن تلعب أي دور لوقف هذا الصراع المحموم ولن تكون معنية حتى بمنعه أو بوقفه لأن وجوده سيصب في المقام الأول والأخير في سلتها ومصلحتها !!  

أؤكد مجدداً على الخطأ التاريخي الذي ارتكبته الحكومة الفلسطينية عندما قررت إجراء هذه الانتخابات، فهل السلطة الفلسطينية يا حكومتنا الرشيدة على استعداد لتحمل الخسارة في معظم البلديات في الضفة الغربية معقل حكم ووجود السلطة وفتح حالياً إذا افترضنا ذلك كافتراض ممكن الحدوث؟! وهل ستتقبل السلطة بصدر رحب التخلي عن إدارة غالبية بلديات الضفة لصالح حماس؟! الأمر نفسه يندرج على حماس فهل لديها استعداد لتحمل الخسارة في معظم البلديات في قطاع غزة معقلها وعاصمة حكمها إذا افترضنا ذلك كافتراض ممكن الحدوث؟! وهل ستتقبل بصدر رحب التخلي عن إدارة غالبية بلديات القطاع ؟! أنا متأكد أن الطرفين ليس لديهما الاستعداد النفسي والمعنوي والسياسي لتقبل مثل هذه المخاطرة ، إذن فهناك نتائج سلبية وخيمة ستقع لو تحقق ذلك فعلاً !! الأمر الذي سيعرضنا وطناً وشعباً لكوارث أكثر إيلاماً وخطورة مما وقع حتى الآن !! أيضاً هل سيكون من المفيد إدارة البلديات من خلال مجالس يجتمع فيها الخصوم المتنافرون وأقصد وجود مجالس بلدية وهيئات محلية مكونة من أعضاء حمساويين وآخرين فتحاويين  بينهما صراع كبير أودى بنا جميعاً إلى مرحلة انحطاط وطني لم يسبق لها مثيل؟! وهل ستنجح هذه المجالس التي تضم هذا النسيج المتنافر والمتصارع شكلاً ومضموناً أن يقود هذه المؤسسات الخدماتية المهمة جداً لكل أبناء الوطن ؟!! لا اعتقد ذلك وستكون سياسة التربص والتصيد والتصارع هي اللغة السائدة مما سينعكس سلباً وبقوة على هذه المؤسسات الخدماتية التي تتولى مهمة توفير وتقديم الخدمات اليومية الأساسية  لقرابة أربعة ملايين فلسطيني دون توقف.

أنا أعتقد أن حماس إن فازت فستصبح أكثر تمسكاً وتشبثاً بالحكم لأنها ستدعي وبشهادة فوزها بالانتخابات بأنها الطرف  الأحق بحكم هذا الشعب وهذا الوطن وستدعي أن الطرف الآخر وأقصد فتح لم يعد الطرف المخول بالادعاء بأنه القوة السياسية الأولى في الوطن.. أما حركة فتح لو فازت في هذه الانتخابات فهذا ببساطة شديدة سيكون لها دليل وحجة على أنها صاحبة الحق الأول والأخير في إدارة هذه السلطة التي كانت نواتها وأساسها منذ البداية وأن حماس ما هي إلا حركة اغتصبت هذا الحق وعليها رده إلى أصحابه ؟ سؤال آخر يطرح نفسه بقوة : هل تستطيع الحكومة ضمان سير الانتخابات من اليوم حتى إعلان النتائج كما هو مخطط له ؟!! أشك في ذلك فها نحن وقبل أن نبدأ الميمعة وتبدا الانتخابات رحاها الحقيقية نسمع ونرى كل مقومات التحريض والتشويه بين فرقاء هذه اللعبة والأمر حتماً سيتصاعد كلما سرنا خطوة إلى الأمام نحوها!

ختاماً لا تكابري يا حكومة السلطة الفلسطينية ولا تقولي عنزة ولو طارت وأرى أن الرئيس محمود عباس وبموجب الصلاحيات المخولة له ملزماً بأن يتخذ قراراً بتأجيل هذه الانتخابات حتى تتحقق المصالحة أولاً وتتهيأ الأجواء ثانياً ، وإن لم يفعل فأنا أعتبرها(الانتخابات البلدية) رصاصة الرحمة التي ستقتل ما تبقى من أمل لبقاء قضيتنا الفلسطينية قائمة على قيد الحياة وتذكروا جيداً أن الانتخابات التشريعية الثانية 2006 التي أجريت في أجواء مشابهة جلبت علينا الانقسام ، ومما لا شك فيه أن هذه الانتخابات إن جرت ستكرس هذا الانقسام وإلى الأبد.!!

        

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد