شكل الانقلاب الفاشل في تركيا فرصة ذهبية ما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحلم بأفضل منها لتعزيز سيطرته على الحكم، وهو الذي يحسب نفسه سلطان تركيا الجديد الذي يعيد المجد للإمبراطورية التركية البائدة. فهذا الانقلاب الغريب العجيب من حيث ضعفه وسرعة القضاء عليه، أصبح المبرر الأمثل لأردوغان للقضاء على كل خصومه وتشديد قبضته على السلطة في بلاده. كيف لا وهو الذي أعاد الانتخابات العامة بعد شهور قليلة على إجرائها لضمان أغلبية برلمانية تؤمن له تغيير الدستور لتوسيع صلاحياته كرئيس على حساب السلطات الأخرى في البلاد.
ليس واضحاً تماماً كيف بدأ هذا الانقلاب الذي قادته مجموعة من الضباط الوسطيين( غالبيتهم عقداء) بدون تدخل من قطاعات واسعة من قوات الجيش تضمن لها السيطرة على الميدان، ولماذا لم يتم اعتقال أردغان أو القضاء عليه في اللحظات الأولى من الانقلاب، الأمر الذي يحدث إحباطاً فورياً لمؤيديه ويغير مجريات الأحداث بصورة دراماتيكية، ولماذا لم يتم الاستيلاء على العاصمة ؟. هذه بعض من الأسئلة التي يطرحها الخبراء والمراقبون لمحاولة تحليل أسباب الفشل، وهو على ما يبدو فشل لبعض أنصار التيار العلماني الأتاتوركي الذي يعارض حكم الإسلاميين في البلاد ويخشى من تولد ديكتاتورية جديدة باسم الدين.
الشيء الذي يبدو واضحاً الآن في تركيا هو الاستغلال التام لمجريات الأحداث لتثبيت حكم أردوغان بصورة لا يتيحها له القانون، فهو قد بدأ حملة تطهير واسعة النطاق لمعارضيه، وقد أصبح من السهل اعتقال أي شخص في تركيا بحجة الضلوع في الانقلاب أو حتى الشبهة التي تستوجب التحقيق. فبعد الاعتداء على الجنود والضباط المتمردين والقيام بعمليات اعدام ميدانية ضد قسم منهم  بدأت عمليات الاعتقال التي طالت أكثر من ستة آلاف شخص من الجيش والقضاء والمعارضين السياسيين. وإذا كان مفهوماً أن تجري اعتقالات في صفوف المتمردين من الجيش فليس مفهوماً لماذا هذا الكم الكبير من المعتقلين في أوساط القضاة سوى أن تكون محاولة من أردوغان للسيطرة على قطاع القضاء. والآن يبدو أن ثلاثة قطاعات مستهدفة في عملية التطهير التي يشنها أردوغان وهي الجيش والقضاء والإعلام، على الرغم من أن الإعلام وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي التي يعاديها قد خدمته كثيراً في التواصل مع مؤيديه الذي يدعوهم للبقاء في الشوارع للتغطية على حملة التطير بحجة أن «فيروس» الانقلاب لا يزال منتشراً – حسب تعبيره.
وخلال فترة وجيزة ستتضح معالم النظام الذي يريده ويسعى لتطبيقه أردوغان. ولا يبدو أن الأمور ستكون سهلة حتى لو تسنى له استغلال الظروف التي ولدها فشل الانقلاب العسكري لإحكام قبضته على السلطات في تركيا. فالانقلاب بحد ذاته يعبر عن وجود مشكلة، والجماهير التي خرجت للشارع لرفض فكرة الانقلاب والتشبث بالديمقراطية كأسلوب لتداول الحكم، لن تتساهل مع الانقضاض على الديمقراطية تحت أي اعتبار، وستصحو هذه الجماهير بعد انقشاع غبار الانقلاب الفاشل على الواقع الجديد الذي يحاول أردوغان فرضه في تركيا. وسيستغل المعارضون له اجراءاته هذه لمواجهته ديمقراطياً. كيف لا وهو الذي ورط تركيا في مشاكل مع قوى إقليمية ودولية عديدة خسرت تركيا الكثير وجعلته يتراجع ويعيد حساباته، ويحاول تصحيح أخطائه بدءاً من موقفه تجاه سورية وحلفائها وانتهاء بالموقف تجاه مصر، ودون إغفال لاتفاق تطبيع العلاقة مع إسرائيل.
والمفارقة في موقف بعض الجهات الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص حركة « حماس »، هي أنها تقف مع حكم أردوغان دفاعاً عن الديمقراطية وإرادة الشعب وضد الانقلاب، وهي نفسها مارست الانقلاب وترفض الاحتكام لإرادة الشعب، وطبعاً الموضوع هنا ليس الديمقراطية التي لا تؤمن بها قوى الإسلام السياسي وإن مارستها فباعتبارها السلم المطلوب للوصول إلى الحكم ليس أكثر. نعم الانحياز هنا لنظام أردوغان الذي يدعمها ويحاول شرعنة انقلابها وسلطتها باعتبارها كياناً سياسياً مستقلاً ومنفصلاً عن الجسم الفلسطيني.
نحن كفلسطينيين يجب أن ندعم حكم الشعب ونقف ضد الانقلابات التي تستهدف مصادرة حق الشعوب في تقرير مصيرها ومن يحكمها، ليس فقط في تركيا وإنما في كل مكان، وإذا أردنا أن نكون منسجمين مع أنفسنا يجب أن نقاتل ليس أقل من الشعب التركي من أجل العودة للديمقراطية والاحتكام لإرادة الشعب في انتخابات عامة ديمقراطية ونزيهة، ومن يفوز فيها يحصل على تفويض من الشعب ليحكم وينفذ برنامجه. وعيب علينا أن نتغنى بديمقراطية الآخرين ونحن نقمع معارضينا ونصادر حقوقهم ونمنع الشعب من تقرير ما يريد بخصوص مستقبله ومستقبل قضيته. ولدينا مبررات وأسباب أقوى حتى من تركيا لإعادة مسار الديمقراطية إلى نصابه، فالأمر يتعلق بتوحيد الوطن والشعب ومواجهة الاحتلال.
لقد بات واضحاً أننا نخسر كثيراً بسبب الانقلاب والانقسام والتمزق، وأن العالم يشكك في قدرتنا على إدارة شؤوننا في دولة مستقلة وكاملة السيادة طالما نحن نفشل في معالجة أمورنا الأبسط وإنهاء الانقسام وتوحيد النظام السياسي. ونستطيع أن نلوم كل العالم على ما يجري لنا ولكن بدون أن نثبت جدارتنا في معالجة مشاكلنا الداخلية سيبقى التأييد الدولي الواسع للقضية الفلسطينية مجرد موقف معنوي لا رصيد له على الأرض، وستبقى إسرائيل محمية من أي ضغوط دولية حقيقية. ولنتعلم من تجارب الآخرين ليس في تمجيد هذا النظام أو ذاك بل في استخلاص درس الوحدة والديمقراطية وتغليب إرادة الشعب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد