فشلت محاولة الانقلاب العسكرية في تركيا ونجح أردوغان في ابطال مفعول القنبلة التي كادت أن تودي بحكمه. عوامل عديدة تناولتها الصحف والتحليلات والوكالات ساهمت في فشل المحاولة من عدم مشاركة قيادة الأركان فيها إلى عدم تخطيطها بشكل جيد إلى الالتفاف الجماهيري والرفض الحزبي لها وعوامل أخرى كثيرة. لكن المؤكد أن ما جري يثير الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول مستقبل حكم أردوغان وحول التحولات المطلوبة في السياسة التركية والتي لابد أن جزءاً من حجج الانقلابيين تتعلق بها. لقد قاد أردوغان السفينة التركية بكثير من النجاحات الاقتصادية والكثير من الخيبات الخارجية مخلاً بمبادئ سياسته الخارجية حول «تصفير» الأزمات.
ومن المؤكد أن تدخل العسكر في الحكم هو غير صحي في تطور النظم الديمراطية خاصة حين يكون النظام السياسي قد قطع شوطاً كبيراً في تعزيز مؤسسات الحكم المدني. وعليه فإن خبرات الشعوب وباستثناء بعض التدخلات القليلة التي جاءت كمراحل انتقالية (ولم تكن انقلابات) مثلما كان الحال في بعض دول أوروبا فإن تدخل العسكر في الحكم عادة ما يكون مدمراً للعملية الديمقراطية. ولما كان الأمر بوجهه النظري يحيل إلى ضرورة الدفاع عن المدني دون حرمان العسكر من حق التدخل في الحكم بعد انتهاء الخدمة العسكرية، فإنه يشير بكثير من الطمأنية إلى ضرورة الفصل بين مؤسسات الدولة بما يكفل الحق العام للمواطن في تبوء الموقع الذي يريد في الدول وفق متطلبات العملية الديمقراطية.
يرتبط بهذا، وبغض النظر عن الضفة التي نقف عليها من السياسة التركية وتدخلها الفج وغير المبرر في بعض قضايا السياسة الفلسطينية، فإنها استطاعت وخلال العقود الأخيرة تقديم نموذج يحتذى به للإسلام السياسي الذي ينجح في المشاركة في العملية الديمقراطية والمساهمة الفعالة في بناء الدولة المعاصرة. لقد كانت تجربة العدالة والتنمية في الحكم محج أنظار الإسلامي السياسي العربي في محاولته السيطرة على بعض أنظمة الحكم، او على الأقل بعض عقلاء الإسلام السياسي العرب ينظرون إلى تجربة أردوغان بالإعجاب وتمنوا أن يكرروها. ولكن التجربة العريية دللت على خيبات كثيرة. فإردودغان قدم مقاربة جريئة لمفهوم العلمانية حين قال إن الدول تقف على مسافة متساوية من جميع مواطنيها بغض النظر عن دينهم ومعتقدهم، وهو بذلك أغضب بعض دعاة «تركنة» أو أردغنة» التجربة العربية. كما أنه لم يسع بشكل فظ كما حاول إخوان مصر المساس بدستور الدولة، وقبل أن يقف تحت صورة أتاتورك الذي قد لا يكون يحبه، أو يعترف بفضله في بناء تركيا المعاصرة، وربما شاطر أركان الإسلام السياسي العرب سخطهم على تفكيك أتاتورك للخلافة الإسلامية. لكنه فهم أنه كي يكون جزءاً من الدولة عليه أن يعترف بأركانها لأن التاريخ لا يبدأ حين دخل البرلمان التركي. ورغم أن أردوغان لم يكن أول زعيم إسلامي يقود تركيا فقبله كان أربكان وقبل أربكان كان ثمة محاولات برلمانية متعددة حتى لا يكون الأمر عملية احتكار، إلا أنه قدم الوجه الأكثر تقدماً في التجربة الإسلامية. وأيضاً فإن أردوغان لم يكن أكثر الأتراك حباً لفلسطين كما يحلو له أن يصور الأمر، إذ أن مواقفه ليست إلا نتاج تطور مقاربات تركيا تجاه القضية الشرق أوسطية. بل إن علاقات تركيا مع إسرائيل على الصعيد التجاري والعسكري توثقت في عهده بشكل كبير. أذكر أن زعيم المعارضة التركية قال لي في مؤتمر حضرناه سوية في إسطنبول إنه أيضاً يحب فلسطين كثيراً وحدثني عن خروجه في مظاهرات عارمة يهتف لفلسطين خلال حصار عرفات في بيروت. ما أرمى إليه أن صنع شعبية أردوغان التركية لم يرتبط بمواقفه مع الصراع العربي الإسرائيل بل بما قدمه للشعب التركي، ففي عهده انتقلت تركيا إلى مصاف الدول العشرين الأغني في العالم بعد كانت مدينة، وبعد سنوات ستتوقف تركيا عن استيراد السلاح وستصبح من مصدريه المركزيين. ومن المهم في ذلك أن الحكم الديمقراطي يظل هو أساس علاقات المواطنين والانتخابات هي الفيصل حتى لو كانت ضد مصالح أحدنا. لاحظوا كيف وقف الحزب المعارض بصرامة ضد الإنقلاب قبل أن يعرف بفشله، وتمسك بخيار الانتخابات ككلمة فصل في تحديد مصير الأمة. لأنه فقط عبر الانتخابات يمكن للمواطن أن يعبر عن مدى رضاه أو سخطه من سياسات الحزب الحاكم وليست دبابات الجنرالات.
لكن يبدو أن أردوغان بحاجة لاجرات جملة من المراجعات السياسية الشاملة وإن كان سيستفيد من محاولة الإنقلاب في تشديد قبضة حكمه على الدولة. فمن جهة فإن ثمة نذر شؤون قد تلوح في الأفق إذا ما حاول تشديد الخناق على المواطنين بخفض منسوب الحريات الذي مسه كثيراً خلال فترة حكمه من جهة مصادرة بعض الآراء المنتقدة له، إذ أن من شأن هذا أن يثير حنقاً وسخطاً في الجيش وخارجه. ولكن الأهم أن هذا يعني أن الجيش بحركته الصغيرة هذه وإن لم تكن مدعومة من قيادات الصف الأول فيه، قد يكون صاحب كلمة في المستقبل خاصة إذا ما لم يلتفت أردوغان إلى سياساته الداخلية التي مست هيبة الدولة ومكان الجيش .فمن توريط لتركيا في الأزمة السورية وتصعيد الأزمة التركية والتصديري العكسي للإرهاب على تركيا كله  أثار حفيظة العسكر خاصة توتير العلاقات وتحسينها من الكثير من دول العالم دون دراية ووعي مثل روسيا مثلاً وتل أبيب. وكنت في مقالتي على هذه الصفحة الأسبوع الماضي قد أشرت إلى التحولات في سياسة أردوغان التي تعكس انزياحاً شديداً في سياسات الرجل يعكس عدم وجود رؤية عميقة لإدارة دفة العلاقات الخارجية وكيف خسر رهاناته في السياسة الدولية. وأظن (لمن قرأ مقال الأسبوع الماضي) أن نفس هذه التحولات في السياق الإقليمي والدولي ستظل تضغط على أردوغان من أجل إعادة توجيه البوصلة، حتى يتفادي أزمات المستقبل.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد