عندما أعلنت مذيعة التلفزيون الرسمي التركي البيان رقم (1) – والأخير – للعسكر الانقلابيين الذي أعلنوا فيه استيلائهم على السلطة وانتزاعها من الحكام المدنيين الذين جاءوا عبر صناديق الانتخابات، وكان هؤلاء العسكر الأغبياء – على ما يبدو -  قد انتقلوا للتو من زمنٍ آخر سابق ، وبالتحديد في النصف الثاني من القرن العشرين ، زمن فات ومات ولم يعد له وجود في عصر السماوات المفتوحة التي تضم غابة من القنوات الفضائية التلفزيونية والإذاعية ، وفي عصر الشبكة العنكبوتية ( الأنترنت ) وتقنيات التواصل الاجتماعي عبرها أو بالهواتف المحمولة وغيرها .

وفي هذا الزمن السابق – في تركيا وغيرها – كان الانقلاب العسكري عادةً ما يبدأ باستيلاء الجيش على مبنى أو مباني الإذاعة والتلفزيون الذي لا تزيد قنواته عن عدد أصابع اليد الواحدة أو الاثنتين على الأكثر، فيبث الجيش من خلالها البيان العسكري رقم (1) الذي يعلن فيه الاستيلاء على السلطة ويحتكر مخاطبة الشعب فيصف حكامه القُدامى بالخيانة والعمالة والفساد والاستبداد، بعد أن يتم تغييبهم في القبر أو في السجن أو في المنفى، ويصف حكامه الجُدد بالإخلاص والوطنية والنزاهة والديموقراطية . . .  حتى يدور الزمن دورته، فيأتي من يتبعهم بغير احسان، فيصبح الحكام الجُدد قُدامى بفعل انقلابٍ آخر، فيلاقوا مصير من سبقهم، فيقول اللاحقون للسابقين: أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار.

والانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا في النصف الثاني من القرن العشرين لا تخرج عن هذا السيناريو، فالجمهورية التركية الحديثة التي أسسها مصطفى كمال اتاتورك على أنقاض الخلافة العثمانية في بداية العقد الثالث من القرن العشرين، شهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية في السنوات 1960، 1971، 1980، 1997، كانت تنتهي بعزل الحكام المدنيين في كل مرة ليحل محلهم العسكر بذريعة واحدة مكررة هي: تدهور الوضع الأمني وتهديد النظام العلماني، ليعيد الجيش الأمور إلى نصابها – حسب رؤيته – ثم ينسحب إلى الثكنات إلى حين.

وإن كانت تلك الانقلابات قد نجحت فلأسباب لها علاقة بطبيعة زمن تلك الانقلابات الذي كانت فيه الدولة تحتكر وسائل الاعلام المحدودة آنذاك، وكان فيه الجيش ينصب نفسه حامي النظام العلماني واستقرار البلاد، ويمتلك قوة طاغية تستطيع سحق النظام المدني متى شاءت، وكان الشعب سرعان ما يستسلم للأمر الواقع فلا ينهض للدفاع عن خياراته الديموقراطية ويتحدى العسكر . . . فإن الأمر قد اختلف الآن بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وبقائه فيها منذ فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية عام 2002 ، ثم توّليه السلطة برئاسة السيد رجب طيب أر دوغان عام 2003.

فقد تعرّض الجيش للتطهير أكثر من مرة، وتم الحد من قوة الجيش دستورياً، وأصبح أضعف من أن يؤثر على الحياة المدنية كما السابق. وازدادت ثقة الشعب بنفسه وقدرته على التغيير، ولم يعد يقبل أن تُداس إرادته تحت أحذية العسكر أو يُفرض عليه حكم لا يريده عبر جنازير الدبابات، بل وأصبح أكثر شجاعة في الدفاع عن خياراته الديموقراطية واحتضان حكامه المنتخبين عبر صناديق الاقتراع. وانتهى العصر الذي يستطيع فيه العسكر أو أي طرف آخر السيطرة على وسائل الإعلام واحتكار قنوات التواصل مع الشعب ليقول له ما يشاء ويأمره بما يريد . . . وإذا أضفنا إلى ذلك كله قدرة حزب العدالة والتنمية على تعبئة أنصاره وتفعيلهم في الشارع ، وسرعة مخاطبة الرئيس لشعبه وتعبئتهم ضد الانقلاب ، وثقة الشعب بحكامه وزعيمه ، وضعف بُنية الانقلاب من حيث الحشد والتخطيط والاهداف والتنفيذ وغيرها من الأسباب ، نستطيع القول أن آلية ومنهجية البيان رقم واحد في الانقلابات القديمة هي آلية ومنهجية انقلاب من زمن فات ولن يعود على الأقل في تركيا وكل الدول التي يوجد فيها شعوب تحترم نفسها وتفرض إرادتها .

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد