هذا هو الانقلاب الخامس في تاريخ تركيا الحديث، لكنه الأول الذي مني بفشل ذريع، الجيش التركي جيش مهني بامتياز، لكنه يختلف عن كل جيوش الدول الديمقراطية، بأنه يعتبر نفسه فوق كل الهياكل السياسية بالبلاد، وحظي بسطوة هائلة مكنته أولاً من صناعة الانقلابات، وثانياً من تتويج الحكومات الانتقالية التي تهيئ لانتخابات اثر كل انقلاب، هذا الجيش الذي يعتبر نفسه الحارس الأوحد على الديمقراطية العلمانية، هو أول من يخرق المفهوم الديمقراطي والعلماني في بلاد تعتبرها فصائل الإسلام السياسي مفخرة لإنجازات الإسلام، بما حققه من استقرار وتطور اقتصادي وتجاري، متجاهلة، أن الديمقراطية العلمانية هي التي مكنت اردوغان وحزبه من الوصول إلى الحكم، وفي الوقت الذي تنادي هذه الفصائل تركيا «بالدولة الإسلامية» لأنها تتجاهل عن عمد، أن تركيا، وحسب دستورها، ليست دولة دينية، بل ديمقراطية علمانية، رغم أن مواطنيها في معظمهم من المسلمين، وفي وقت تتجاهل هذه الفصائل، أن الصومال هي البلد الإسلامي الحقيقي، حسب الدستور وحسب الجهات المسيطرة عليها، والجهات المعارضة لنظام الحكم غير المستقر والمتخلف!!
مع وصول الحرية والعدالة واردوغان إلى الحكم عمل على إضعاف الجيش، ونصب المحاكمات الشهيرة لكبار الضباط، مستغلاً هذه المحاكمات لتطهير الجيش من المنافسين، والمتمردين على حكمه، إلاّ أن ذلك لم يكن السبب الوحيد وراء هدف اردوغان لإضعاف الجيش التركي، إذ أن أحد المآخذ والمبررات، لعدم قبول تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي يعود إلى دور الجيش في الحياة السياسية في تركيا وهو أمر مرفوض في أي حياة سياسية ديمقراطية ومدنية، ورغم تقلص دور الجيش في الحياة السياسية في البلاد، إلاّ أنه ما زال حتى من الناحية الدستورية، الوريث لأفكار ومعتقدات ومبادئ اتاتورك، والوحيد المخوّل الحفاظ عليها.
البعض يرى أن الانقلاب لم ينجح، لأنه أريد له أن يفشل من الأساس، وحسب نظرية المؤامرة التي استمعت إليها من قبل البعض، فإن اردوغان بات ضعيفاً داخلياً وخارجياً، بعد تورطه في سورية، ودعمه للارهاب، وخلافه مع الولايات المتحدة وتلاعبه بالعلاقات الروسية ـ الأميركية، والحصار الذي فرض على سياساته من قبل معظم الأطراف، وحالة العداء لتركيا من قبل الدول الإقليمية والأوروبية، وأسباب أخرى عديدة أدت إلى أن أردوغان الذي فشل دستورياً في أن يصبح «دكتاتوراً دستورياً» لكنه مع ذلك مارس دوراً منفرداً كدكتاتور من الناحية الواقعية. 
اردوغان هذا، كان بحاجة إلى عملية إنقاذ، لعلّ في سيناريو انقلاب فاشل مدروس بعناية تعيده إلى المركز المرموق الذي حظي به قبل إقدامه على سياسات خاطئة وخطيرة، كما أن فشل مثل هذا الانقلاب، سيمكنه من تطهير الجيش من المتمردين على سياساته.
وبصرف النظر عن مدى دقة هذا السيناريو، إلاّ أنه من المؤكد أن اردوغان يستعيد شعبيته ووهجه ويتخلص من المعارضين لسياساته في الجيش التركي كنتائج ملموسة لفشل هذا الانقلاب!
إن كل مساوئ اردوغان وسياساته الخرقاء، داخلياً وخارجياً، لا تبرر على الإطلاق القيام بانقلاب عسكري على حكمه، فهو لم يأتِ من الفضاء ولا من كولسات الأحزاب، بل من خلال الاقتراع الشعبي في ظل انتخابات ديمقراطية متعاقبة. من العبث، بل من المستهجن، إزاحة رئيس منتخب من الشعب بقوة السلاح والدبابات والسيطرة على تلفزيون الحكومة، وقد لفت انتباهي أن الانقلابيين في خطوة أولى سيطروا على التلفزيون، كما فعل الانقلابيون العرب، مع إغلاق بعض المرافق، على عكس انقلابات أميركا اللاتينية، التي تبدأ مع السيطرة على التلفزيون بالسيطرة والاستيلاء وحصار ثكنات الجيش والقوات المسلحة بكل تشكيلاتها، وكأن الانقلابيين الأتراك، مجرد هواة، رغم تجربة هذا الجيش الناجحة لأربع مرّات في الانقلابات، ما يعزز ولو نظرياً فكرة المؤامرة.
ولا شك أن فشل هذا الانقلاب، أكد من جديد، ورغم كل إخفاقات اردوغان، أن النظام السياسي التركي، نظام مستقر وصامد وقوي، وليس أدل على ذلك، من الدور الذي لعبته أحزاب المعارضة ضد الانقلابيين ونزولها إلى الشارع في مواجهة معهم، رغم خلافاتهم الحادة والمعلنة مع اردوغان وسياساته، وهو ما يؤكد مجدداً أن لا نظام سياسياً قوياً بدون معارضة قوية، يضاف إلى ذلك، أي أسباب وقوف المعارضة ضد الانقلاب وليس بالضرورة دعماً لاردوغان، ان هذا الأخير، قام «بثورة تصحيحية» في الفترة الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى تقارب بين سياساته وسياسات بعض الأحزاب التركية.
إلا أنني أعتقد أن إسرائيل خارج هذه المعادلات تماماً، فهي في كل الأحوال، نجح الانقلاب أم فشل، حصتها محفوظة دائماً، وهي مستفيدة في كل الأحوال والظروف من كافة المتغيرات في تركيا وسواها، على المستوى المنظور على الأقل؟!


Hanihabib272@hotmail.com

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد