أردوغان الجديد يعتذر لتل أبيب كما يعتذر لموسكو وي فتح خطوطاً جديدة تبشر بانزياحات جديدة في سياسته الخارجية. فأردوغان الغاضب المقتبس من القرآن والمردد للشعارات الرنانة ضد إسرائيل لا يجد حرجاً الآن في أن يتهم من جاؤوا ل غزة عبر البحر بأنهم لم يستشيروه فيما يفعلون وبالتالي فهو - بطبعته الجديدة - غير ملزم بأن يخسر إسرائيل من أجلهم. فأردوغان الجديد بات يرى النصف الآخر للكأس الموضوع على الطاولة بينه وبين إسرائيل بعد أن كان مغمضاً عينيه. وأردوغان الجديد لا يهمه مواصلة إسرائيل حصارها لقطاع غزة طالما أن المساعدات التركية بطريقة أو بأخرى ستدخل قطاع غزة ولو حتى من البحر، أما بقية دول العالم فهي حرة في طريقة تعاطيها مع حصار إسرائيل لغزة.
بكلمة أخرى، إن أردوغان بطبعته الجديدة أيضاً بات يرى الحصار أمراً خاصاً بعلاقة إسرائيل بالدولة التي تريد أن تقيم علاقات مع قطاع غزة، وبعبارات أكثر وضوحاً فإن أردوغان أعطى إسرائيل غطاءً سياسياً وشرعياً لحصار قطاع غزة، لأن من يريد أن يفك هذا الحصار عليه أن يأخذ موافقة إسرائيل ويصل لتفاهمات معها حول ذلك.
وأردوغان الجديد لا يتردد في الاعتذار لموسكو عن حادثة الطائرة. بل إنه يبحث عن أكثر عبارات الصداقة من أجل أن يثبت حسن النية لموسكو التي كانت طوال أكثر من عقد من حكمه الشيطان الأكبر. بل إنه اكتشف فجأة قرب أنقرة من موسكو وربما العلاقات القديمة بينهما.
بكلمة أخرى، إن أردوغان الجديد لا يتنكر لسياسته السابقة بل هو يجد في جعبته من الأسباب التي كان نسيها في السابق التي تدفعه لأن يقوم بعكسها.
ثمة مليون سبب تجعل قرب أنقرة من موسكو منطقياً في ظل ورطة الأولى في سورية وحاجتها لموسكو من أجل خروج آمن من الوحل السوري، وفي ظل الانسحاب الأميركي من المنطقة وترك حلفاء واشنطن وحيدين يقلعون الشوك الذي علق بملابسهم من جراء تدخلهم الأرعن في أزمات الربيع العربي. كما أن أردوغان بعد خروج لندن من الاتحاد الأوروبي يعرف أن أكبر داعمي عضوية أنقرة في الاتحاد قد خرجوا وعليه فإنه يجب أن يرمم علاقاته مع المنطقة المحيطة به. جزء من هذا الترميم يتعلق أيضاً بإسرائيل وسيكون على حساب تحالفات أردوغان الإسلامية وجزء سيكون لإعادة جسور العلاقات مع موسكو. لاحظوا أن الناتو يناقش مستقبل وحدة المواجهة مع روسيا من حيث الحاجة لها من عدمه.
النتيجة أن أردوغان يدير دفة علاقاته الخارجية بطريقة مختلفة ولكن بنفس البرغماتية التي تمتع بها سابقاً.
ومن المؤكد أن أخطاء الماضي لا يمكن أن تذهب دون دفع الثمن، لذا فإن تركيا الأردوغانية تعرف أنها دفعت ثمن أخطاء سياسات إسلامها السياسي في المنطقة، وأن الانخراط في كل أزمات المنطقة سيرتد على إسطنبول. فأردوغان لم يترك أزمة مشتعلة إلا كان له طرفاً مشتعلاً فيها، خاصة حين يتعلق الأمر بالفضاء الإسلامي الذي طمح الرجل، دون أن يقول ذلك جهاراً، أن يكون خليفته الجديد.
لقد عمل أردوغان تماماً عكس طموحات رئيس وزرائه الحالي ووزير خارجيته السابق أوغلو صاحب كتاب العمق الاستراتيجي الذي دعا إلى ضرورة أن تقوم تركيا بتصفير أزماتها في المنطقة. وبدلاً من ذلك أخذ بالشق الثاني لتنظيرات أوغلو المتعلقة باكتشاف تركيا لعمقها الاستراتيجي المتمثل في المنطقة العربية والإسلامية في القوقاز. وبدلا من تصفير الأزمات فإن ما نتج عن سياسات أردوغان كان تصفير الجيران الذين لا يوجد لأنقرة معهم مشاكل، بمعني لم يعد هناك جار لا يوجد لتركيا معه مشاكل.
وبغض النظر عن وجهة نظرنا من طبيعة تلك العلاقات وموقفنا من أخلاقيتها إلا أن أردوغان في نهاية المطاف قام بتوتير العلاقة مع تل أبيب منذ العام 2009 على الرغم من أنه لم يوقف التعاون العسكري والتبادل التجاري، بل إنهما شهدا تسارعا في عهده، ولكن على الصعيد السياسي شهدت العلاقات ارتجاجات واضحة وصلت حد تبادل الاتهامات، وهو توتر غير مسبوق في علاقة أنقرة بتل أبيب المبنية على التحالف التاريخي بينهما الذي تشكل العلاقة مع واشنطن صمغه.
وبالتالي فإن تركيا بالقدر الذي كسبت فيه بعض المواقع في سياستها الخارجية، خاصة علاقاتها مع أطراف الإسلام السياسي بعد الربيع العربي وقبله في فلسطين، فإنها خسرت كثيراً من وجهة نظر تركيا.
كان بناء الحضور الإقليمي، من وجهة نظر أردوغان سابقاً، يتطلب توتير العلاقة مع تل أبيب وتثويرها مع تحالفه الإسلامي. ولم يمض وقت حتى توترت علاقته مع روسيا ووصل الأمر حد التصادم المسلح الخفيف الذي أودي بإسقاط طائرة روسية وإن قيل بالخطأ. ولم يكن ثمة حاجة من وجهة نظر ممارسي السياسة الخارجية التركية لتوتير العلاقة مع موسكو إلا بحث أردوغان عن حضور تركيا الإقليمي في الأزمة السورية وبالتالي وضع الدولة على شفا حرب مع قوى عظمى كروسيا في الوقت الذي كان موقف حلفاء أنقرة واضحاً بأنهم لن يدخلوا في حرب مع روسيا. أما أردوغان الجديد فيرى أن الحضور الإقليمي الجديد لا يمر إلا عبر تل أبيب وموسكو..
كما أن حلفاء أردوغان من الإسلام السياسي فقد أثبتوا أنهم إما غير قادرين على تكملة المهمة وتم الإطاحة بهم أو أنهم أوغلوا في استخدام القوة للدرجة التي بات الأمر يهدد تركيا نفسها وحلفائها.
كما أن الأمر في نهاية المطاف أخسر تركيا مؤازرة الكثير من حلفائها الذين كانوا من دعاة فكرة صعود الإسلام السياسي في البداية لأسباب عدة.
ليس أمام أردوغان الجديد إلا أن يخفف من نبرته في دعم حلفائه الإسلاميين سواء في غزة أو في القاهرة أو سورية أو العراق. الأزمة باتت أكثر حدة مع دخول العامل التركي وتنامي الشعور القومي عند أكراد سورية والتواصل بينهم وبين أكراد الجنوب التركي.
في المحصلة فإن أردوغان فتح على تركيا أبواب جهنم باجتهاداته السياسية. وعلى أردوغان الجديد أن يستخدم كل السبل من أجل إخماد بعضاً منها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية