هلل العالم ممن يؤمن بالديمقراطية والليبرالية والتعددية وينحاز لهذه المعايير وقيمها، ورحب بنتائج المؤتمر العاشر لحركة النهضة التونسية قبل أيام وقراراته النوعية غير المسبوقة، ونظراً لأهميته حضره الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي ، ومراقبون مهتمون وممثلون عن الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية التونسية والعربية والأجنبية الصديقة.
فقد توقف المؤتمر أمام تجربة الحركة الكفاحية في محطاتها الثلاث: الأولى السرية في العهد القمعي والاعتقالات والتشرد، والثانية بعد انتصار الحركة الشعبية في إسقاط نظام زين العابدين بن علي 2011 وإدارتها للدولة 2011 – 2013، والثالثة عبر المشاركة في الائتلاف الرباعي الذي يقود الدولة التونسية منذ انتخابات 2014 وحتى اليوم، بعد أن تراجعت الحركة من حصولها على الأغلبية البرلمانية إلى أن حلت في الموقع الثاني ولها 69 مقعداً بعد حزب نداء تونس.
وكان قرار المؤتمر المتوقع وسبق وأن بشر به رئيس الحركة ومؤسسها راشد الغنوشي الذي أعلن أن حركته جادة في الاستفادة من أخطائها قبل وبعد الثورة وهذا ما تضمنه تقرير المكتب السياسي المقدم للمؤتمر وأعلن أن «التخصص الوظيفي بين السياسي وبقية الحالات المجتمعية ليس قراراً مسقطاً أو نتج عن الرضوخ لإكراهات ظرفية، بل هو تتويج لحركة تطور، ومسار تاريخي، تمايز فيه العمل السياسي عن الدعوي والمجتمعي والثقافي»، وخلص إلى أن «حركة النهضة ستتحول إلى حزب يعمل في الحقل السياسي فقط، تاركة الشأن الدعوي الديني للجمعيات المدنية» وعليه قرر المؤتمر العاشر لحركة النهضة التونسية اتخاذ خطوتين: الأولى التحول نحو حزب سياسي مدني، لا صلة له بالدين، بل حزب سياسي وطني يسعى اعتماداً على فهمه ووعيه الإسلامي إلى طرح برامج سياسية واقتصادية واجتماعية تعكس رغبات الشعب التونسي وطموحاته وحل مشاكله، والخطوة الثانية فك ارتباطه مع حركة الإخوان المسلمين الأم المصرية العابرة للحدود ومكتب إرشادها الأممي في القاهرة، وبذلك خلص المؤتمر إلى فتح البوابة نحو نقلة نوعية للعمل السياسي لحركة النهضة التونسية.
التحول الذي بادر له الرئيس الغنوشي وحركة النهضة، لا شك أنه سيترك آثاراً إيجابية عابرة للحدود في العالم العربي ستستفيد منها أحزاب إخوانية مماثلة، تختار لأن تكون أولوياتها وطنية وتفصل العامل السياسي عن العامل الدعوي، فالسياسي متقلب وفق تطورات الأحداث وقياساته نسبية على عكس الدعوي الديني العقائدي فهو قيمي ثابت يوجه الإنسان نحو خلاصه النفسي والشخصي بما يرضى، بينما السياسي لا يستطيع إلا الانحناء أمام متطلبات الواقع ومستجداته بهدف تطويره أو تغييره.
حركة النهضة التونسية سجلت على أنها الأولى في عالمنا العربي التي بادرت لهذا التغيير من حركة دينية إلى حزب مدني، ولكن وقائع الأحداث المسجلة تشير إلى أن بعض إخوة الأردن قد سبقوا ذلك وبادروا بشجاعة وأعلنوا وطالبوا في وقت مبكر بهذا التغيير وبهذا التوجه وبهذه الرؤية ونحو هذا الخيار، ودفعوا أثماناً باهظة من الأذى والإساءات والفصل وغيرها من الإجراءات التعسفية على أيدي الفريق المحافظ الذي يقود حركة الإخوان المسلمين في الأردن، مثلما سبق وجرى تغيير قريب من هذا للحركة الإسلامية في مناطق 48، حينما قررت الحركة الإسلامية بقيادة عبد الله نمر درويش مؤسس الحركة ومعه إبراهيم صرصور وأغلبية قواعد الحركة وقياداتها المشاركة في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية وتحالفوا مع الحزب الديمقراطي العربي، برئاسة عبد الوهاب دراوشة وفازوا في انتخابات العام 1996، ولا زالوا منذ ذلك الوقت يشاركون في الانتخابات ويحققون نجاحات ملحوظة على عكس رائد صلاح الذي انقسم عن الحركة رافضاً فكرة المشاركة في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية.
حركة زمزم الأردنية التي يقودها صاحب العقل الدافئ، والروح الوثابة رحيل الغرايبة، ودعواته نحو التحول إلى حزب سياسي وطني أردني، برنامجا وأولوية، يُسجل لها أنها صاحبة المبادرة، وله الفضل والشجاعة في دعوته المبكرة نحو فصل الفعل السياسي عن الفعل الدعوي، فالفعل الدعوي حالة عقدية بين الإنسان وربه، بينما الفعل السياسي حالة عقدية بين البشر أنفسهم بين الإنسان والإنسان، وبين المواطن والحزب السياسي، بين الناخب والمنتخب في النقابة أو البلدية أو البرلمان، وبين المواطن والدولة وفق منظومة الحقوق والواجبات، وهذا فرق نوعي كبير بين الحالتين، بينما انحاز رفيقه عبد المجيد الذنيبات للعمل الدعوي وبادر إلى التكيف القانوني مع هذه الرؤية فنال ما نال من الأذى المماثل من طرف القيادة التقليدية، رغم أنه سبق وأن شغل موقع المراقب العام للحركة، وحظي بعضوية مكتب الإرشاد الأممي للإخوان المسلمين، ومع ذلك لم يوفر له ماضيه الحماية من التشكيك بنظافته.
نجاح حركة النهضة التونسية في مسعاها ورؤيتها المستجدة، وفوز رئيسها بمبادرته وإعادة انتخابه رغم محاولات منافسته من قبل البعض داخل المؤتمر يدلل على أهمية التوجهات التي عملوا لأجلها وساروا فيها، ما سيؤدي إلى تعميم التجربة وإشاعتها خاصة بعد الفشل الذي منيت به حركة الإخوان المسلمين على اثر محاولاتها فرض خياراتها الحزبية، فتعرضت إلى الإخفاق في مصر وليبيا والأردن وسورية، وكما حصل مع حركة حماس الفلسطينية التي انفردت بالهيمنة على قطاع غزة فقدمت نموذجاً متدنياً من التسلط الإخواني، وتورطت في سورية عبر انحيازها للمعارضة السورية المسلحة، وخسارتها للدعم السوري الإيراني، وتورطها مع المعارضة الإخوانية المصرية ضد نظام الرئيس السيسي، ما فرض عليها حصاراً قاسياً تلهث لفكفكته، ولذلك فالآفاق ما زالت مغلقة والوقائع متقلبة، أمام مجمل فصائل حركة الإخوان المسلمين العابرة للحدود.


h.faraneh@yahoo.com

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد