انتهجت مصر منذ أن اختارت إستراتيجية السلام مع إسرائيل بعد انتصارها فى حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 سياسة السلام الشامل والعادل وليس أدل على ذلك من أن الرئيس الراحل أنور السادات وقع فى سبتمبر 1978 ما يسمى إطار السلام فى الشرق الأوسط الذى اشتمل على قسمين الأول مبادئ التسوية فى الضفة الغربية وقطاع غزة والثانى إطار اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل وكلها نصت على تنفيذ جميع بنود قرارى مجلس الأمن 242 و338 للتوصل لتسوية شاملة وعادلة ودائمة , ثم قامت مصر بعد ذلك بستة أشهر بتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل فى مارس 1979 .

ورغم المواقف السلبية العربية التى أعقبت توقيع مصر المعاهدة إلا أن هذا التوجه المصرى مهد الطريق أمام انطلاقة حقيقية لعملية السلام من أجل إنهاء الصراع العربى الإسرائيلى فقد تم توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993 ثم توقيع معاهدة السلام الإسرائيلية الأردنية عام 1994, ثم مفاوضات إسرائيلية سورية عام 1995, ولم تكن مصر غائبة عن دعم المفاوض الفلسطينى فى جميع المراحل وكانت حاضرة بقوة فى العديد من الاجتماعات السياسية التى تمت فى الولايات المتحدة والدول الأوروبية بل واستضافت شرم الشيخ بعض هذه الاجتماعات قناعة منها بأن السلام الشامل هو أساس تحقيق الاستقرار فى المنطقة وهو ما عبر عنه الرئيس السيسى مؤخراً بكل وضوح .

أما الجانب الفلسطينى فقد تبنى توجه السلام بشكل رسمى منذ 1993 وتم تبادل الاعتراف بين إسرائيل ومنظمة التحرير , وكان يأمل فى تنفيذ أهم جوانب اتفاقات أوسلو وهى المتعلقة بإنهاء مفاوضات الحل الشامل بما لا يتعدى عام 1999 وبالتالى إقامة دولته المستقلة , إلا أن اغتيال اسحاق رابين عام 1995جاء بمثابة رسالة مباشرة بأن اليمين الإسرائيلى لن يسمح بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة سواء من خلال اتفاقات أوسلو أو أى اتفاقات أخرى . لم تتجاوز الطموحات الفلسطينية إطار المطالب الطبيعية العادلة المتمثلة فى إقامة دولته وعاصمتها القدس الشرقية تعيش فى أمن وسلام بجوار إسرائيل , وهنا لابد أن أشير إلى أن الجانب الفلسطينى قبل بإقامة دولته على حدود ما قبل الخامس من يونيو 1967 أى على 22% فقط من مساحة فلسطين التاريخية , بل أن هناك بعض الإحصائيات تشير إلى أن هذه النسبة انخفضت حالياً إلى 15% فى ضوء معدل الاستيطان الإسرائيلى ونسبة الأراضى التى تعتزم إسرائيل الاحتفاظ بها حتى بعد قيام الدولة الفلسطينية.

إذن فالقيادة الفلسطينية ركزت كل مشروعها السياسى على الضفة وغزة وكانت شديدة المرونة المحسوبة فقد وافقت على تبادل جزء محدود من أراضى الضفة مع إسرائيل بشرط أن تكون بنفس النسبة والقيمة (بما لا يتعدى 2%) وهو ما يعنى أن فلسطين ستضم إليها نسبة من الأراضى الإسرائيلية مقابل أن تضم إسرائيل نفس النسبة من الأراضى الفلسطينية التى أقامت بها مستوطناتها الكبرى أو تعتبرها ضرورية لمواجهة أية تهديدات أمنية خارجية , كما قدم المفاوض الفلسطينى حلولاً وسط للعديد من قضايا الوضع النهائى بشرط ألا تجور على الحقوق الفلسطينية .

فى كل الأحوال كانت القيادة الفلسطينية حريصة على التمسك بالثوابت الرئيسية فى ظل أية تسوية سياسية ومن أهمها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وتعويضهم تنفيذاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948 فلا يمكن لأية قيادة فلسطينية أن تتنازل عن هذا الحق الذى يمتلكه الشعب الفلسطينى فقط, ولكن إدراكاً لطبيعة الواقع الحالى على الأرض تم طرح بعض الاقتراحات للتوصل إلى تسوية مقبولة متفق عليها من جميع الأطراف فى هذه القضية ولكن إسرائيل رفضتها, كما أنه لا يمكن لأية قيادة فلسطينية أن توافق على ألا تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية وألا يخضع المسجد الأقصى للسيادة الفلسطينية الكاملة .

فى الجانب المقابل لم تبد إسرائيل أية مرونة فى مواقفها فمازالت ترفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة متواصلة الأطراف حيث أن المستوطنات والطرق الالتفافية التى تخدمها تمنع ذلك وتحول الدولة الفلسطينية إلى ما يشبه الكانتونات, كما أن إسرائيل تعارض تماماً مبدأ حق العودة وتسعى إلى حذفه من أى تسوية وتتمسك بالنص على يهودية الدولة, بالإضافة إلى تأكيدها أن القدس هى العاصمة الموحدة والأبدية للدولة وقامت بضمها رسمياً إليها من خلال قرارين أصدرتهما عامى 1967 و1980 وتقوم بعملية تهويد ممنهجة للمدينة بكل الوسائل وتسمح لمسئوليها وللجماعات اليهودية المتطرفة باقتحام المسجد الأقصى .

إذن فنحن أما معادلة شديدة الوضوح فهناك طرف فلسطينى لا تزال أرضه محتلة ويجاهد للحصول على الحد الأدنى من حقوقه المتمثلة فى إقامة دولته المستقلة وأبدى مختلف أوجه المرونة المطلوبة دون جدوى ساعد على ذلك انقسامه الداخلى والضعف العربى والتحيز الأمريكى وعدم الضغط الأوروبى, وفى المقابل هناك طرف إسرائيلى رافض لكل الحلول السلمية وعلى رأسها المبادرة العربية للسلام التى تتيح له علاقات طبيعية مع الدول العربية مقابل الانسحاب الكامل وتزداد الأمور تعقيداً فى ظل وجود الحكومة الإسرائيلية الحالية التى أقل ما يقال عنها أنها أسقطت من أجندتها فكرة حل الدولتين , ويظل السؤال الرئيسى مطروحاً كيف يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة.

فى رأيي أن تغيير هذه المعادلة يتطلب موقفا عربيا (ليس بالضرورة جماعيا) تقوده مصر يتبنى رؤية سياسية واحدة ولتكن المبادرة العربية للسلام يتحرك بجدية فى إطارها ويسوقها للعالم بما فى ذلك داخل إسرائيل من خلال آليات واقعية , فالخطأ الجسيم أن نترك إسرائيل تنفذ سياساتها بمفردها ونكتفى بإدانتها بل يجب أن نمارس أقصى الضغوط عليها من خلال مفاوضات متواصلة حتى وإن لم تحقق نتائج فى مراحلها الأولى كل ذلك بالتوازى مع تنشيط المقاومة الفلسطينية السلمية لأننا فى النهاية أمام معركة سياسية سوف ينتصر فيها صاحب النفس الطويل القادر على استخدام أدواته حتى وإن كانت محدودة .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد