يا أحمد
سأعود بذاكرتي الى الخلف عشرات السنوات، ربيع عام 1968، في عمرك أو أكثر قليلا، يعتقلني الاحتلال من الشارع، قريبا من بيتنا. أمي تراقب الشارع عن بعد منتظرة عودة الجميع بعد أن تهامست المدينة الخبر. ثمة مظاهرة بنّاتية انطلقت من مدرسة رابعة العدويّة في طولكرم، أما المظاهرة الذكورية، فقد قبض عليها داخل الأسوار. لم تميِّزني أمي، لطف الله بأمومتها فاستبعدت مشاركتي، أنا ابنتها الوديعة.  
بعد ساعات من التحقيق تم الافراج عني مع زميلتي، استمعنا خلالها إلى محاضرة تخللها قذف عبارات التهديد والوعيد في وجوهنا، وتوعدنا بالعقاب الشديد في حال تكرار مشاركتنا بالمظاهرات. من ضمن الجمل التي قصفنا بها «البريغادير «يوسف» ذو الاصول المصرية: «ليس لدينا سجن خاص بالسياسيات، والسجن الذي ينتظركم سيضمكم مع المومسات الاسرائيليات». كانت المرة الأولى الذي يمر بها المصطلح على رأسي.
لم تكن أداة البحث «جوجل» في الخدمة، خشيت التساؤل عن معنى الكلمة الغريبة ومدلولاتها، فقد كان المحقق غاضبا ويكثر خبط يده بالطاولة، وخفت سؤال والدي، مرجعيتي، مشفقة على خياله من معرفة فصول المحاضرة التي أخضعني لها المحقق..
يا أحمد: لكي أكون صادقة معك، بينما تتعرض إلى مفاجآت ومعارف شبيهة تغني قاموسك اللغوي، فقد تفاجأت أكثر تصنيفي الجديد، إدراجي في خانة السياسيات. لقد انتقلت على حين غرة من مكاني، وفُتحَ لي ملف خاص يليق بالتصنيف الجديد.
 أذكر لك بعضاً من تجربتي المبكرة، لأن تجارب الطفولة القاسية تترسب في القعر وتضع علامة فارقة. أنت منذ أمسكت بالسكين «غيرَك». سيتضح لك أن دفاعك المبني على منهاج «مش متذكر» أكبر من لحمك الغضّ، وأشمل من الحبكة التي قمت بحياكتها. 
أنت منذ «مش متذكر»، أصبح لك ملف وتصنيف جديد، واكتسب اسمك وقعاً آخر..ستضع حجرَ أساسٍ جديد تبني فوقه حروفاً وأرقاماً انتقالية، تبدأ من رقم قميصك وعدد السنين التي سيحكمون بها على طفل هربت منه طفولته.
يا أحمد، أنت منذ ذلك اليوم بطل، لقد أحببت اللقب.. قصدت تناول جرعة صغيرة من النضال، فلما شربتها غمرتك السيول. قصدت أن تقدم لنا حكاية في صندوق صغير، فلم يتسع الصندوق الأكبر للحكاية، ودخلت من حيث لا تدري لعبة الصناديق متدرجة الأحجام. ستتغذى الحكاية من أنين عظامك وضآلة حجمك.
يا أحمد: لست بطلاً أو ساحراً، لكنك بوعي أو دون وعي، على الأرجح، قمت بربط مصيرك بمصير البلد، وستكون مرغما، على الأرجح، على استكمال رحلتك بين القضبان، في قلب ومكان الشغف الكبير، الذي يزيد من أعباء المسير وصعوبته. 
أحمد الصغير: أنت قاصر «ومش متذكر». أنت قاصر وابن بيئتك التي دفعتك إلى حرق المراحل الاعتيادية، فأصبح لزاماً عليك البقاء بمحاذاة الواقع ومحاكاته قبل فهم تشعباته وتفرعاته. 
ستنضم إلى قائمة طويلة من الأسرى الأطفال، لكنك لم تعد قاصراً بعرف القانون..على أثر تحصين القانون بالمزيد من المخالب والأسنان، وأصبح بإمكانه أن يحاكمك كشخص بالغ ومسؤول عن أفعاله. انهم لا يتوقفون عن تسجيل وقائع وآليّات كيّ الوعي، في الظروف الاشتباكيّة التي ربطت حياتك ومصيرك بها..
يا أحمد المناصرة: سأبقى أتابع معك، دائما فأنت أحد نماذجنا المتكررة، ما دام لا أحد يتقدم للقيادة..ومع هذه الكوميديا السوداء، سيتعيَّن عليك منذ الحكم أن تتذكر كل الشوارد، فقد بدأت حكايتك فعلاً، فقم بحياكتها جيّداً..

- See more at: http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=10ef7f95y284131221Y10ef7f95#sthash.7AQXodBt.dpuf

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد