97-TRIAL- نحن بخير في غزة . لا ينقصنا إلا السؤال.
حياتنا صارت روتيناً تعودنا عليه. لحظات عابرة في بريق يلمع في السماء في طريقه لخطف جملة من الأرواح قبل أن يخفت ويختفي.
نحن بخير في غزة. فقط الطائرات الزنانة تأكل هدوئنا ليل نهار. تذكرنا بإصرار وعند على وجودها في حياتنا. نحن لا ننكر هذا الوجود ولا ننفيه، ولا نقول إننا لا نريده. فقط هي لا تفهم لغتنا البسيطة في التعبير عن الأشياء. فنحن نريدها معنا ونريدها ان تؤنس وحدتنا ولكننا لا نريدها أن تأكلنا واحداً تلو الآخر، أن تلتهمنا عائلة بعد أخرى.
أيضاً طائرة الأف 16 القادمة إلينا من فوق المحيطات والبحار حتى تغتال حياتنا. لسنا خطيرين لهذا الحد، لو عرفنا العامل الذي وضع الضوء في مقدمتها او ذلك الذي رتب أسلاك الكهرباء في قلبها القاسي طيبتنا وحبنا للحياة لربما أمسك عن تزويدها بالصاروخ حتى تسافر من القارة البعيدة إلى شواطئنا لتصربنا. منظرها المرعب وهي تحلق في السماء مطلقة البالونات الحرارية وصوتها الهادر في السماء زئير أسد سيلتهم عما قليل قبيلة من الحيوانات الأليفة.
نحن بخير في غزة لولا البوارج التي تقف قبالة شواطئنا محولة بحرنا الهادئ إلى كتلة من اللهب. حتى أسماكنا القليلة التي كنا نأكل منها كلما خرجت سفننا الصغيرة لم تسلم من ضربات البوارج القاسية. كتل اللهب وحمم النار تخرج من فحيح صوتها الأجوف تثير الرعب في كل شيء: في موج البحر، في أسماك السردينا الصغيرة، في رمل الشاطيء الناعم، في كروم العنب على شاطئ الشيخ عجلين، في الأطفال المكدسين في حجر أمهاتهم، في كل شيء. حتى في أحلامنا الوديعة ببحر هادئ وموج مسالم يسبح بحنا أقل من احلامنا بكثير، لكنه يأخذنا إلى رائحتها.
نحن بخير في غزة، فقط نحن نبحث عن الحياة وسط هذا الموت الذي بات يقترب أكثر فأكثر منا. الموت الذي يتجول في كل ناحية، يخطف الأرواح من كل زقاق، يهجم على كل بناية وحارة وبيت. لا يميز بين عجوز وشاب، بين رجل وأمرأة، بين طفل في بطن أمه وكهل سيذهب عما قليل بإرادته إلى القبر. الموت الذي صار اللغة الأكثر انتشاراً وسطنا. لم نخفه يوماً لكننا بنتنا نخاف بشاعته وقسوته وحلوله القدري علينا. وقعه الأليم حين يمزقنا إرباً وأشلاء فلا يعرف أحدنا أي يد له وأي رجل او عين للرجل أو المرأة التي ماتت بجواره. تلك القسوة هي ما نخاف ولا نرغب. أما الموت فكل منا عاش فائضاً من العمر حين لم تجهز عليه الحروب السابقة. نخاف وقعه الأليم مثل رمية القدر، نريده خفيفاً كخفة الساحر. اما هو فمرحب به لأن للحياة مسارات ونهايات لسنا أصحاب قرار فيها، لولا رغبتنا في أن نحيا كما هو مقدرو لنا كبقية البشر، ومثلما يرغب أطفالي في أن يكونوا أطفالاً مثل الأطفال الذين يرونهم خلف شاشات التلفاز. كأن ثمة حياة للأخرين وحياة لنا.
نحن بخير في غزة حتى لو لم نر الكهرباء لخمسة أيام. الكهرباء ليست مهمة، المهم أن ثمة نهار وشمس تضيء حتى منتصف اليوم. هذا يكفي. أما الكهرباء فقد نسينا وجودها. ولم نعد نسأل متي ستأتي الكهرباء. لأنها لا تأتي. وفي حالات نادرة وإذا ضحكت لنا الدنيا فقد تأتي لساعة أو نصف ساعة في ساعات الليل الأخيرة ونحن نسرق ما استطعنا من النوم من فم القلق.
نحن بخير في غزة فالماء ليس مهماً للبشر. فنحن نتدبر أمرنا بجردل ماء في اليوم. نوزعه بيننا بعناية وتدبير. فهو يكفي لعشرة أشخاص. نغسل منه صحون الطعام، نغتسل منه، نغسل أيدينا، نرش بعضه على ملابسنا قبل أن ننشرها على النافذة حتى تجف. هذا يكفي. وإذا ما جاءت المياه بشكل طبيعي ولم تتوفر الكهرباء كالعادة حتى تصعد وحدها إلى خزان المياه، وإذا ما امتلكنا القليل من الشجاعة وبعض القوة نحمل الجردل ونصعد به درجات السلم القاسية ونفرغه في خزان الماء فوق السطح. ثم جردل آخر وثالث حتى يصبح بمقدورنا أن نستعمل الصنبور بشكل طبيعي كما يفعل البشر ولكن بطريقة غير طبيعية.
نحن بخير في غزة فقط هم لا يفهمون أننا شعب مسالم محب للحياة، يهجم عليه وحش مفترس فلا يملك إلا أم يدفع عنه أذاه العظيم بالقليل من العناد والقوة، يخرمشه قليلاً فيما عروقنا تنزف وعيوننا تدمي. ليس لنا إلا أن نبقى كما كنا وكما أردنا القليل من الفرحة تكفينا، وإذا ما تناقصت أحزاننا وضحكنا قلنا بخفة الغائب عن الحياة "الله يستر من هالضحك". حتى الضحكة كثيرة علينا، وحتى آلامنا قليلة على الأخرين يريدون الكثير منها.
نحن بخير في غزة. نتناقص يوماً بعد آخر. الطائرة تمحو بناية من الشارع. تصحو من النوم فلا تجد البناية المجاورة. تسمع عن موت من تحب عبر الهاتف أو عبر الراديو. تبكي قليلاً وقبل أن تجف دموعك تسمع بموت آخرين. تتعود الموت والبكاء والبكاء والموت. القناص فوق الدبابة في الجوار نسى عن قصد كل فنون القتال وصار يرسل حمم قذائفه بعشوائية مقصودة يريد أن يقتل أكبر عدد منا. كل ساعة يذهب أحدنا في الطريق المعتم للموت. يسير محاطاً بعشرات من الراحلين في الدرب المؤلم لأن ثمة لاحقين كثر.
نحن بخير في غزة. بتنا نشتاق لقهوة الصباح، ولرائحة النعناع في كأس الشاي، ولمذاق الزعتر في صحن الفطور، ولطشطشة الفلافل في مقلي الرجل العجوز على طرف الحارة، ولصوت الباعة في الصباحات الرائقة، ولصوت الفتية في الطريق إلى المدارس، ولزغرودة الجارة في الفرح، ولنسمة البحر عند الأصيل. بتنا ننسي الأيام لأن اليوم لا يختلف كثيراً عن أمس ولا سيختلفان عن يوم غد.
نحن بخير في غزة، فببيوتنا صارت هباءً وكومات من الرذاذ المتطاير، بعضنا لم يتعرف على بيته، على كومة الأخيلة السابحة في ملكوت الهباء. احلامنا صلبت بلا ذنب لكننا تعرفنا عليها حين راودتنا في طريق الوادي الهائم في الغياب، أما شوارعنا فصارت حشائش تدوسها الخيل الممعنة في دك الحصون، لا ناقة لنا في حكاية البسوس لكن علينا أن نلعق كل آلام العرب. نحن بخير رغم كل شيء فلا بيت ولا طريق يدل عليه، ولا حصان ينتظر عند الحظيرة، فقط الأرنب الفالت من كوخ الحطب يلملم أعشاب الحديقة ويبني بيتاً جديداً له.
نحن بخير في غزة لولا أن أغلبنا أضطر لترك بيته واللجوء للمدارس. من لجوء إلى لجوء، ومن خيمة إلى خيمة. وبعضنا لم يجد مكاناً في المدرسة ولا وجد خيمة تكفيه فسكن الشارع. افترش الأرض والتحف السماء. ننشر غسيلنا على درابزين الشارع نغسله ببريق الحياة ولعابها وننشفه بلهب الموت المتسكع في النواحي.
نحن بخير في غزة، فسيارة الإسعاف مازالت تعمل بكد وكدح منقطعي النظير، وكاميرا الصحافي تلتهم خبار موتنا أطباقاً شهية ومعجنات لذيذة تستوردها كل وكالات الأنباء، ورغم ذلك نظل في نظر العالم الجلاد رغم دمنا المسكوب مثل حليب مراق في طرقات الأطفال.
نحن بخير في غزة لو أننا نعرف أن هذه الحرب ستنتهي وأننا سننجو منها كما نجونا من التي قبلها. نحن بخير رغم كل شيء.
- الو غزة
- صاحب الرقم الذي تحاول الاتصال به ميت. 161

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد