عادة ما أجد نفسي مدعواً لندوات وورش تتعلق بمفاهيم حداثية في الحكم والإرادة من نوع: سيادة القانون ومكانة المرأة ودور الشباب والمشاركة السياسية والديمقراطية وحرية الرأي، تقيمها أحزاب ومنظمات مجتمع مدني ويطمح المنظمون عادة لتطبيق تلك المفاهيم على المجتمع الفلسطيني والنظام السياسي الفلسطيني الناشئ حديثاً.
لم تكن لتلك الدعوات أي ذكر قبل أن تتشكل السلطة الفلسطينية ولكن ما أن أتيح للفلسطينيين حكم أنفسهم حتى ظهرت عيوب التجربة التي تبدت كأنها تضيف لنماذج النظم العربية واحداً جديداً، فانتبهوا إلى أن مواقع القيادة في الأحزاب الفلسطينية مغلقة أمام الشباب وأنه لا مكانة حقيقية للمرأة وأنه لا مشاركة سياسية ولا قيادة جماعية ولا حرية صحافة وغيرها.
منذ عقدين وما زالت تلك الندوات والورش تكرر ذاتها بنفس العناوين وبلا إحراز أي تقدم، بل إن التجربة ومع الانقسام أوغلت أكثر في التنكر لكل شيء ولكن القليل ربما يدرك أن المسألة أبعد كثيراً من نداء يطلق في بيان أو نقاش عابر يتكرر منذ عقود، والغريب أن المجتمعات العربية بما فيها نحن أكثر المجتمعات حديثاً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ومفاهيمها الحداثية فيما أن تلك المفاهيم لم تعد تناقش في دول العالم المتحضر ولسبب بسيط أنهم تجاوزوها منذ أن تحققت لديهم.
ما زلنا بعيدين عن ممارسة السياسة بشكلها العلمي وما زال القانون ينطبق فقط على القضايا الجنائية وهو ليس أحد سمات السياسة العربية الأقرب للبداوة منها للدولة المدنية ليس لأن العرب لا يريدون بناء نظم حديثة بقدر ما أن الأمر يتعلق بالمجتمعات العربية نفسها، فالمفاهيم التي يتم نقاشها هي مفاهيم مدنية حديثة تشكل نقيضاً للعالم العربي الذي ظل أسيراً لمرحلة تاريخية قديمة لذا لم يحدث تقدم بالرغم مما قيل وكتب حول ذلك وهو كثير يغطى المكتبات العربية وساعات البث الطويلة وقاعات الفنادق.
لا يناقشون في أوروبا أو حتى إسرائيل قضايا الشباب ولا الديمقراطية ولا المرأة ولا أي شيء من هذا لأن النظام الاجتماعي مختلف تماماً، وبالنظر إلى جزء من شعبنا على الجانب الآخر من الحدود فإن القائد السياسي الأبرز هناك هو الشاب أيمن عودة ابن الـ 42 عاماً فيما بقية الشباب في الضفة و غزة يناقشون أزمة دور الشباب منذ عقدين، وليس صدفة أن نجد حنين زعبي أو عايدة توما يفرضن أنفسهن في قوائم الأحزاب دون نظام الكوتا وليس صدفة أيضاً أن تشكل عندهم القائمة المشتركة هذا النموذج من الوحدة والمشاركة والقيادة الجماعية بينما نحن نفشل في التوحد. لماذا؟
الجواب بسيط لأن النظام الاجتماعي القائم هناك تم بناؤه وفقاً لمفاهيم غربية فوجدوا أنفسهم جزءاً منه، لكن العالم العربي ظل يراوح في مرحلة القبلية ولم يتجاوزها بل يتم تأكيدها في كل التفاصيل ليس فقط السياسية بل وأيضاً الاجتماعية. إنها القبيلة ووعي القبيلة الذي يعكس مستوى ثقافتنا والسلوك الناتج لهذا الوعي والذي لا بد وأن ينتج هذا الأداء ولا بد أن نبقى نتحدث نظرياً محاولين تطبيق قيم في حالة تضاد مع الواقع.
ومن أجل فهم لماذا نستمر بالحديث بلا نتائج علينا فهم نظام القبيلة وإجراء محاولة قياس على الواقع. ففي القبيلة يتمتع شيخ القبيلة بسلطات مفتوحة والقانون السائد هو قانون القبيلة وإن وظيفة المرأة تنحصر في إنجاب الأولاد وتحديداً الذكور تحضيراً لمعارك القبائل التي لا تنتهي. ويقتصر دور الشباب في القبيلة على المبارزة والحروب ولا مشاركة لهم في القرار فذلك متروك لشيخ القبيلة وبعض الشيوخ من كبار السن المستشارين له ولا أحد يتحدث في القبيلة عن تداول سلطة الشيخ ولا مشاركته في القيادة وتعيينات المساعدين تتم وفقاً لمعايير الولاء، هكذا هي الأمور.
إذا أدركنا أننا في مرحلة تاريخية معينة، مرحلة القبيلة فمن السهل تفسير كل الأشياء الحاصلة لدينا ويمكن أن نوفر على أنفسنا الكثير من الوقت والجهد ونحن ندعو بلا نتيجة.
فلدينا يحظى الزعماء بسلطات واسعة وأن مدى احترام القانون بحاجة إلى تدقيق، أما المرأة عندنا فهي لم تتجاوز وظيفتها الإنجابية بعد وعلينا أن نلاحظ المصطلحات التي نستخدمها للإشادة بالمرأة وهي ضرورة ربطها بالذكور كأن نقول أم الشهيد – أخت الشهيد- زوجة البطل وهكذا حتى القيادات النسوية تستخدم تلك المصطلحات.
أما المشاركة السياسية فتبدو بعيدة عن الواقع وكذلك القيادة الجماعية والديمقراطية وحرية الصحافة تعني الصحافة التي تحتفي بالزعيم وغير ذلك تبدو خارجة عن النسق وتتعرض للنبذ، والمقربون من الكتاب مَن هم على شاكلة شاعر القبيلة والشباب الذين لم يتوقفوا عن المطالبة بدورهم في السياسة وفي المجتمع ومع ذلك لم يستطيعوا تحقيق أي تقدم في هذا المجال ويمكن التوقف أمام أعمار أعضاء المجلس الأعلى للشباب للتأكد من ذلك.
إن ما حدث من انقسام هو أقرب لحروب القبائل منه للسلوك السياسي ومعرفة حدود الاختلاف وإن استمراره هو استمرار لتلك الثقافة، فقراءة مجتمع العشيرة تحل كثيراً من رموز الأزمات السائدة والتي يتم حلها أو المطالبة بها، بل ويسهل على المحلليين تقديم رؤية أكثر واقعية بعيدة عن الآمال والأحلام غير المبنية على فهم دقيق لطبيعة المجتمعات العربية، بل وتستسهل عملية نقل المجتمع وتطبيق منظومة الحداثة بمجرد ندوة أو محاضرة. هذا يعكس رؤية تسطيحية لأزمة أعمق وعندما لا يتم إحراز أي تقدم يصابون بالإحباط.
المسألة هنا عملية تغيير اجتماعي وهو من أصعب أنواع التغيرات وأشدها بطئاً. ولكن حقيقة الأزمة في العالم العربي هي أنه عالم يعيش في القبيلة وأن أحزابه السياسية هي نقل لتجربة القبيلة وأن ثقافتها هي جزء من التكوين الاجتماعي والنفسي للمجموع بحيث تظهر في كل ممارسة، لكن أبرزها هو العمل السياسي لذا يجري التركيز على القضايا السياسية لأنها ميدان الصراع الأكثر تمظهراً ولأنها أيضاً ميدان السلطة والصلاحيات والمال.
هذا يفيد للقراءة والتفسير والمعرفة ولكن ما الحل؟
يكمن الحل في التوافق حول تشخيص الأزمة بقراءة علمية عميقة ... قراءة سسيولوجية دقيقة للمجتمع أولاً ومن ثم التوافق حول القانون ثانياً باعتباره المفتاح الوحيد القادر إرساء حدود للسلطات والصلاحيات وتحقيق العدالة وتداول السلطة دون منافسة قوانين أخرى. إنه «القانون» الغائب لدى القبائل العربية وإذا ما أمكن ذلك كخطوة نحو الدولة المدنية سنكتشف أن كل الأزمات ليست أكثر من انعكاسات للواقع ..هي مجرد نتائج للهرم المقلوب.. ربما ننجح لكن أن نبقى نتحدث بنفس الأزمات ونبقى بنفس المربع فهذا غير منطقي على الإطلاق بل ويعبر عن عدم فهم للواقع وشروط اللحظة التاريخية والاجتماعية حيث لا تكون نتيجة كل الجهود والورش مجرد إهدار للوقت والمال، والنتائج تبقى مخيبة وهذه ليست مصادفة..!
Atallah.akram@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية