لكل منا فلسطينه، يراها ويفهمها كما يشاء، ويضبط علاقته بها كما يرغب. لي فلسطيني تخصني وحدي، جنسية وهوى وأكثر. فلسطيني أقوى حضورا في البعد، أشتاقها أكثر، وطناً وهوى. فلسطيني، وظيفتي اليومية بدوام كامل، لا تمنحني أي إجازة، لا قانون أو نظام في فلسطيني، لا اعتراض على ظلمها وعدم التزامها بالانساق المعروفة. شرِهة، تطالبنا تقديم قرابين وبراهين الحب إلى الأبد.. ونقبلها كما هي، قداستها واضطهادها حتى النفس الأخير.
في البعيد أحاول تجاهلها. أتلصص على طقسها اليومي، سأرتدي الملابس المناسبة لطوارئها الاعتيادية. في البعيد أتابع يومياتها المتماثلة، كل يوم يقطع من نفسه نسخة مخصصة لليوم التالي، نعف الدماء والتراب، وداع الشهداء وانتزاع قلوب الأمهات، زخات المطر وحزمات الرعد، خروج غزة عن الشرعية والشريعة، دخول الضفة الشريعة والشرعية من الباب المقابل! لا جديد تحت السماء، لكني أدعي تجاهلها مستمرة في اللهاث وراء خبر ليس بعاجل.
ألحق القصص الصغيرة والكبيرة، قصص القيادات والقواعد، بعضها يأتي في رسائل إلكترونية مغلقة والأخرى أطالعها في المقالات الحزينة، خطان متوازيان لن يلتقيا..أقرأ وأقرأ، وأقنع من حولي بأني قادرة على فصل نفسي عن فصولها، مجرد ضغطٍ على الأزرار.
أخذت نفسي وذهبت مصطحبة معها قلبي وعقلي، أسعى نحو خوض تجربة جديدة عليّ، أروقة الأمم المتحدة، كتبت عنها الكثير نظرياً، وأعرف القليل من جوانبها العملية. ابتعد بنفسي وأنأى بها نحو الداخل العائلي. أفكر وأسبر غوري البعيد في البعيد، خياراتي وشغفي المستدام وبعض متطلبات الرتوش والتفاصيل، في المكان الحميم الأقرب إلى القلب.
أحتاج الهرب بتمردي وعنادي، لأختبر معهما عن اتجاه البوصلة. أسئلة ملحّة تُطرح من قبلي على ذاتي، أسئلة عن تغيير تفاصيل الوقت، تغيير الملل المقيم في عقارب الساعة، عن صحة الاستمرار في الدوران حول الساقية، دُوار البحر وانكسار المجاذيف وخيار الغوص في الدوّامة، لا أصل إلى محطة أمان، إنها متلازمة الدُوار.
أسئلة العقل في الأوان، عن الحاجة الى انتفاضة واحدة أم انتفاضات متشعبة. عن الدوامة التي تأخذنا إلى القاع حيث لا ضوء ولا هواء، هناك تتشابه الأشياء وتتساوى، النضال والمساومة على النضال، والمضي باتجاه الذوبان والاضمحلال.
فلسطيني لا تتغير في البلاد أو من خارجها، إنها بلاد الانتظار وبعثرة الأيام، فلسطيني هي القلم الذي يرسم أول الحلم وآخره. إنها الأحلام المستحيلة عملياً والواقعية نظرياً، فلسطين هي الذكرى التي نستنشقها يومياً ولا نكفّ عن اشتياقها، القريبة والبعيدة في آن واحد.
ستحيلني المواجهة في البعيد إلى الاعتراف بخطيئة ما.. تمنيت لو ارتكبتها، والمواجهة ستحيلني للإقرار بالهزيمة والاستسلام.. تمنيت أن يقعا، فالضعف لا يمكن هزيمته ولا يستحق شحذ أي سلاح ضده.
في نهاية الحوار مع الذات، أكتشف أني قد اصطحبت روحي معي أبحث عن خياراتي في البعيد، أنا لا أعرف من تكون روحي التي اصطحبتها معي ولا ماهيتها، لكني متأكدة إن تأكدَ صحة افتراض وجودها، أني سأخشى من شجاعتها ومفاجآتها وتخبطها الفريد، على أرض تتخبط من أول الوجود إلى نهاياته، ومن أول الحلم حتى آخره.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية