هناك من هم الأقدر على الحديث عن الأبعاد النفسية لما شاهدناه من حفل "النجاة" و"التوبة" أو "التتويب" أو "الاستتابة" قبل عدة أيام في قطاع غزة .
وهناك من المختصين من هم على قدرٍ عال من المقدرة على تحليل الأبعاد الاجتماعية والثقافية لهذا "المهرجان" الذي شهدناه، والذي أنتج وأخرج و"منتج" حتى ظهر لنا بالشكل والصورة التي ظهرت لنا.
وهناك، أيضاً، من هم على درجة عالية من التأصيل للحديث عن علاقة ما شهدناه بالديمقراطية وحقوق التعبير وعن حقوق الإنسان في المعرفة والاطلاع.
وقد تنطوي كل هذه الأبعاد على مسؤوليات خاصة يفترض أن يتحملها هؤلاء المختصون.
أما المسؤولية الوطنية فنتحملها جميعاً دون استثناء، وعلاقة التربية بالوطنية وعلاقة التربية بوحدة وتماسك المجتمع، وعلاقة التربية بالهوية، فهذه ليست مسؤولية فئة هنا وأخرى هناك، لأنها مسؤولية جامعة شاملة وكلية. كما أن علاقة التعليم بالهوية والوطنية وعلاقته بمنظومة القيم وقواعد السلوك الاجتماعي ونمط الوعي الذي يفترض ان يتم الاهتمام به ورعايته وتطويره، فهذه أيضاً ليست مهمة خاصة لاحد على وجه التحديد بقدر ما هي مسؤولية كل القوى السياسية والاجتماعية، وكل منظمات المجتمع المعنية بالتنمية بكل أبعادها وبالوعي بكل أشكاله.
ردة فعل المنظمات السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية على مهرجان "التتويب" قاصرة وعاجزة ولا تعكس في الواقع الدرجة المفترضة والمطلوبة من الانحياز للعلم أو سوية التربية، بل وتفتقد في بعض الأحيان للحميّة الوطنية والى العاطفة الديمقراطية، تماماً كما تفتقد إلى النخوة والشجاعة في الدفاع عن قيم المجتمع الفلسطيني التي تربينا عليها بكل ما تنطوي عليه من تسامح ووسطية وتعايش وتلاحم وتماسك في مواجهة الأخطار التي واجهناها، ولا نزال نواجهها على مدى قرن كامل من الكفاح الوطني. المسكوت عنه في الواقع أكبر وأخطر مما شهدناه، وكل ما شهدناه ليس سوى نموذج متلفز عن واقع بعض المدارس في بلادنا ومن واقع التعليم فيها.
نحن نجد أنفسنا في الواقع أمام تراكم تاريخي من الهروب المتكرر إلى الأمام بدلاً من الوقوف أمام تربية وتعليم النشء الجديد. ونحن نجد أنفسنا في الواقع وفي كل يوم أمام صعوبات أكبر وعراقيل أكثر في مواجهة موجات التحكم والسيطرة على عقول هذا النشء، حتى وصلنا إلى اليوم الذي تتحول فيه الشعوذة الدينية إلى مهرجان يبث على الهواء مباشرة، وحتى وجدنا انفسنا امام عمليات "تنويم" تربوية في الساحات العامة للمدرسة، وباحتفالية لا تختلف من حيث الجوهر عن السلوكيات التي تنهجها منظمات التطرف والارهاب في بعض المناطق التي تحيط بنا.
ومع ان كل الوقائع تدل بما لا يقبل الشك أن الإنسان هو وسيلة التنمية وهدفها، وان المصادر البشرية هي المصادر الأهم في أي مجتمع يسعى للرقي والازدهار وتوفير سبل الحياة الكريمة، ناهيكم طبعاً عن المجتمعات التي تسعى للتحرر والانعتاق واعادة بناء مجتمعاتها على أسس وطنية ديمقراطية راسخة كالحالة التي نعيشها.. مع أن هذه الدلائل دامغة، ولم تعد مثار خلاف أو جدل على أي مستوى من المستويات، إلا أن هذه المسألة بالذات ليست في صلب اهتمام المؤسسات الوطنية بالقدر المطلوب، وهي ليست في صلب اهتمام بعضها على الاطلاق، وربما تكون بعض هذه المؤسسات معنية اكثر مما هي معنية بتغييب هذا الاهتمام بالذات وتحويل هذا الاهتمام الى حالة معاكسة من استلاب الوعي واختطافه نحو مساحات غيبية لا تمت للعلم والعلوم بصلة، ولا يربطها بالوعي الوطني والديمقراطي أي رابط سوى الخصومة والعداء.
كنت قبل عدة سنوات في كوريا الجنوبية وكنا مجموعة فلسطينية منتقاة في زيارة دراسية كان قوامها الرئيسي من مؤسسة mas وحظينا بمعارف هامة في إحدى أهم الجامعات هناك، وحاضر بنا مجموعة مرموقة للغاية من أساتذة الجامعات الكورية في الشؤون الاقتصادية والتنموية.
عندما سألنا جميعاً أحد أهم القامات العلمية في كوريا عن السر أو المفتاح الذي يراه في تفسير ظاهرة الازدهار الاقتصادي والاجتماعي الكوري في العقود الثلاثة او الاربعة الاخيرة قال بكل بساطة: إعادة بناء الإنسان الكوري.
السر هو في الإنسان، والإنسان الفاعل الذي يمتلك العقل العلمي، ولديه الانتماء الملتزم، والسلوك القويم ومسلح بقيم الانتماء للوطن والمؤسسة والعمل والانتاج والمن فتح على الإبداع والابتكار.
السر في المدرسة والحضانة والروضة والجامعة.
السر في المعلم المؤهل والمدرب والمنتمي.
السر في منهاج التعليم ومتطلبات العصر من الأدوات المعرفية.
السر في طرح الأسئلة والحق في طرحها.
والسر في محاولات الإجابة عليها.
فأين نحن في الواقع من هذا الفهم؟
وإذا كان بعضنا يعرف ذلك ويدرك أهميته ومقتنع بنجاعته فبأي معنى يجد في مدارسنا ما يستجيب ويحاكي هذه الأهمية؟
ألا تتعرض هذه المفاهيم والقيم في تربية النشء الفلسطيني وتعليمه إلى مجازر يومية على كل الصعد والمستويات؟
بأي حق يتم تنصيب أناس لأنفسهم أوصياء على الأطفال ووعيهم ونمط تربيتهم وسلوكهم؟
وبأي حق ينصب هؤلاء الناس أنفسهم وسطاء لله والسماء واي دين يقبل الوساطة بين الإنسان وخالقه؟
اليس هذا شيء يشبه صكوك الغفران سيئة السمعة والصيت في القرون الوسطى؟
إلى أن نتعلم الفرق بين الجامع والجامعة سيبقى حالنا يسير من سيئ إلى أسوأ، وإذا لم نفهم وعلى الفور أن مسيرة التعليم في خطر فنحن في الواقع لا نعرف الأخطار كلها ولا نقدر عواقبها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد