كان اليوم الرابع من الحرب ويومي الثاني في لبنان. استنفار متواصل في مكتب الجزيرة في بيروت. خمس دقائق بعد دخولي المكتب يطالعني مديره آنذاك السيّد غسّان بن جدّو باندفاع أن استعدّي للظهور مباشرة على الهواء.. لم ينتظر السيّد بن جدّو جوابي، ولو انتظره لعرف أنّها تكاد تكون المرّة الأولى التي أظهر فيها على الهواء مباشرة!!! لم يسبقها سوى ظهور يتيم ووجيز لي خلال الانتخابات النيابية في لبنان بداية مشواري المهني في تلفزيون المستقبل عام ثمانية وتسعين! لكنّني أنا من توفّر في تلك اللحظة وغرفة الأخبار تطلب مراسلاً على الفور.. لم أضيّع الوقت في الشرح لأنّني لم أجد الوقت لذلك أساساً ولم يسعني إزاء الموقف سوى الاطّلاع سريعاً على التطوّرات والأماكن المستهدفة وطبيعة الضربات... صعدت السلالم إلى سطح المبنى حيث كان يفترض أن تكون الخلفية بانورامية لمدينة بيروت.. أضع سمّاعة الاتصال باستديو الأخبار في الدوحة وتتمّ عملية التأكّد من صلاحية الصوت والصورة... كلّ هذا وأنا أتلو في قلبي المعطيات وأسماء الأماكن... وتأتي اللحظة.. يخفق قلبي وأنا أسمع تلك الجملة التي ما ظننت أنّني سأسمعها في موقف كهذا: ومعنا من بيروت مراسلتنا كاتيا ناصر.." يا للهول! لستُ مرتبكة كما كنت أخشى وها أنا أوصل المعلومات بأمان وسلام... إلى أن سلّمني أحدهم ورقة بسلسلة ضربات جديدة... كان هذا طبيعياً في ظرفنا، فالأحداث متواصلة متسارعة... قرأت المعلومات ونوّهت بأنّها مستجدّات وردت للتوّ... أتذكرون مديري في غرفة الأخبار السيّد أحمد الشيخ؟ فاته تنويهي ولم يلحظ من أدائي سوى ما قرأته عن الورقة اضطراراً فهتف لمن حوله: ليش بتقرأ عن الورقة؟ هالبنت ما عادش تطلعوها عالهوا (طبعاً عرفت ذلك فقط بعد نهاية الحرب والحمدلله)... لكنّ الرجل لم يكن يعرف حينها أنّني في ظرف ساعات سأكون مراسلة الجزيرة... في الجنوب!

بعد قليل من ظهوري المباشر الأوّل، حضر الزميل عبّاس ناصر وقد استدعاه السيّد غسّان إلى مكتبه لإبلاغه بالاستعداد للذهاب إلى الجنوب بدلاً من الزميلة بشرى عبد الصمد التي عادت الليلة السابقة بعد تعذّر البقاء في منطقة المواجهة الأولى في مارون الراس. كنت حاضرة في تلك اللحظة ووجدتني أقنع عبّاس والسيّد غسّان بإرسالي أنا... قلت لعبّاس إنّ وجودي بمكتب بيروت مؤقّت وقد يتمّ استدعائي للعودة إلى غرفة الأخبار فور توفّر أيّ بديل وإنّني أريد أن أكون في الجنوب... شعرت بوميض في قلبي وعينيّ وبطاقة رهيبة تريد التحرّر من داخلي... أعترف بأنّني كنت أنانية في موقفي وصريحة إلى حدّ الفجاجة... وعبّاس الرائع قابل ذلك بصدر رحب وابتسامة هادئة ضمّنها ما فسّرته إعجاباً بجسارتي... السيّد بن جدّو بادر بالمثل... إن كان هذا فعلاً ما تريدين وإن كان عبّاس لا يمانع فلنتوكّل على الله...

طرت إلى المنزل... وضّبت حقيبة صغيرة.. كلّمت أبي وأمّي على عجل... لم أقل شيئاً من قبيل الوداع أو طلب الرضا... كانت كلّها أشياء سبقتها اللحظة... وهما أيضاً لم يقولا ما يجعلني أتردّد... فقط لحقت بي أمّي إلى الباب وهي تحمل مقشّة وتركت الباب مفتوحاً حتى اختفيت وهي تتلو الآيات والأدعية... تلك كانت طقوس التفاؤل عندها بعودة الأحبّة... لم أنظر إليها مليّاً ولا سمعت ما تتلو... فقط حفظت وجهها وابتسامته ومضيت.

أتممنا الاستعدادات اللوجستية في المكتب. سننطلق في سيارتين، شاحنة البث المباشر يقودها وسام موعد، وسيارة صغيرة يقودها المصوّر عصام مواسي الذي سأكون برفقته... وعصام العائد لتوّه من الجنوب بعد تغطية مميّزة مع بشرى معروف بأنّه مصوّر مقدام وهو أيضاً ابن الجنوب وخبير بجغرافية المنطقة... كان الهدف أن نصل إلى مرجعيون، وهي في القطاع الشرقي من الجنوب، وما بعدها تقع نقاط التماس الأقرب مع تراب فلسطين... لكنّ الوصول كان محفوفاً بالمخاطر، فالعدوّ قطّع أوصال الطرقات المؤدّية للجنوب من جميع الاتّجاهات، وكان يستهدف بشكل مباشر بحراً وجواً الطريق الساحلي الذي ينبغي أن يكون طريقنا الرئيسي، وقد سلكناه لمسافة محدّدة قبل أن نبدأ رحلة التعريج على مسالك التفافية ومنافذ جبلية وعرة لم نكن ندري حتى بوجودها، وكان الحظّ حليفنا في بقاء طريق جبل الباروك الوعر مفتوحاً رغم تلقيّه ضربات استهدفت الحيش اللبناني في ذلك الصباح وقد أغلق هذا الطريق بعد مرورنا بساعات بفعل ضربات جديدة.

كلّ هذا وأنا لا أفكّر إلا في أمر واحد فقط... كيف أبلغ عصام دون أن يهلع بأن لا خبرة لي سابقة في عمل ميداني كهذا وأنّ أكثر ما غطّيته كان مؤتمرات ومناسبات تحت جنح السلم؟ كيف أطمئنه أنني لن أربكه وأنني سأكون على قدر المسؤولية؟ لم أفكّر طويلاً، قلت له كلّ ذلك ببساطة ودويّ الضربات يلعلع من حولنا على الطريق الساحلي الرابط بين بيروت والجنوب.. كان مؤدّباً وراقياً ولم ينبس ببنت شفة.. لكنّني شعرت بأنّ تصريحي لم يكن آقلّ دويّاً من ضربات العدوّ! لم يطمئن عصام حينها وهو المقاوم اليساري العنيد سوى أنّني ابنة خال صديقه أنور ياسين... أنور الذي أمضى سبعة عشر عاماً في سجون الاحتلال بفلسطين... هو نفسه أنور الذي "تبنّته" أمّ الأسير جبر وشاح (من غزة الأبية)حتى نيله الحرية بعملية تبادل الأسرى عام ٢٠٠٤.. وأنور كان رفيق كتاباتي ورسمي دون أن أعرفه... وها هو يجمعني بمن سيكون رفيق درب غير اعتيادي....

كانت مفاجأة كبرى أن نتمكّن من الوصول إلى قلب مرجعيون عند الخامسة عصراً. خابرنا السيّد بن جدّو لإبلاغه وكدت أراه يطير من الهاتف ابتهاجاً لتحقيقنا هدفاً بعيد المنال... لم يكن بالحسبان بالفعل، ولا حتى في حسابات عصام، أن نتمكن من الوصول خلال ساعات!

أعددنا على عجل لأوّل ظهور مباشر من قلب الجنوب.. قمنا بعدها بجولات في القرى المحيطة لإعداد أوّل تقرير ميداني على أرض الحدث، وهناك كانت صورتي الأولى التي استخدمتها الجزيرة خلال الحرب... وجدتني في نهاية اليوم لا أفكّر سوى بالخطوة المقبلة...لم أعد أفكّر كيف أبلي... عليّ أن أتعامل مع ما حولي فحسب... أين نذهب وكيف نصل.. سيل من المعلومات وطلب الإغاثة يقدّمه الناس والمخبرون وأبرزهم الزميل الدؤوب محمّد الدهشة.. قائمة تتسّع من مسؤولي الإغاثة والصليب الأحمر والقوات الدولية...

مضى نهاري الجنوبي الأوّل وبدأ ليل طويل من الترقّب دون أن نتعب... نعم... لم نتعب والخوف صار شعوراً هزيلاً بائساً... أذكر أنّ بشرى هاتفتني... وأذكر صوتها الشجيّ يقول: لو تعرفين ماذا تفعلين... أتدرين ماذا تفعلين؟ لقد دخلت القلوب... فرحت... طبعاً فرحت... لكن بالنسبة لي، كان كافياً... أنّني دخلت الجنوب!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد