قبل أيام، نشرت مجلة «أتلانتيك» مقابلة مهمة وشاملة للرئيس الأميركي باراك أوباما الذي تبقى له حوالى عشرة أشهر في البيت الأبيض، يمضيها أي رئيس أميركي في التفكير بالوصايا السياسية التي سيتركها لخلفه بعد تجربة ثماني سنوات في زعامة أقوى دولة في العالم .. تقارير أمنية واقتصادية وعسكرية، مراقبة كل الكون الشركات والزعماء حتى .. يترك للرئيس الذي سيليه أين يمكن النجاح وأين يمكن الفشل..
المقابلة كانت مجموعة من الوصايا دفعة واحدة لرئيس لم تستوعب كثير من الدوائر الأميركية كيف وصل للحكم وقد عنونت المجلة تلك المقابلة الطويلة بـ «عقيدة أوباما». 
أجاب الرئيس الأميركي كيف كان يفكر طوال السنوات الماضية، كيف تصرف، كيف اتخذ القرارات .. كيف عاند الجميع في الكثير منها. 
والحقيقة أن المقابلة تكشف عن أنه لم يكن ساذجاً بل ربما كان من أكثر رؤساء الولايات المتحدة الأميركية ذكاء وأهم ما اتبعه هذا الرئيس هو سياسة ضبط النفس «لوقف جنوح» القوة الأميركية كما قال.
في المقابلة، شرح الرئيس أوباما كيف تجنب بكل ما يملك كل الضغوطات التي مورست عليه لضرب سورية، فقد جهز مساعدوه مسرح العمليات، حرضوه على أن هيبة الولايات المتحدة على المحك، فحين يقول الرئيس الأميركي أن على الأسد الرحيل ولا يرحل فإن ذلك نهاية الهيبة الأميركية، وخصوصاً حين يتم هذا الأمر ضد رئيس ضرب شعبه بالأسلحة الكيماوية. طبعاً ذلك التحريض تم بعد أسبوع من استعمال السلاح الكيماوي في سورية.
تحدث الرئيس كيف أدار ظهره مشككاً بكل تقديرات مساعديه وأجهزة الاستخبارات ومراكز الدراسات في واشنطن، وفي هذا الصدد تكتب المجلة كلاماً كثيراً بالقول: «في 2013 استاء أوباما كثيراً، خصوصاً من القادة العسكريين الذي اعتقدوا أنهم يمكن أن يصلحوا أية مشكلة إذا أعطاهم القائد المسؤول ما يريدون، واستاء من جميع مراكز أبحاث السياسة الخارجية وسط اعتقاد كبير داخل البيت الأبيض أن كثيراً من هذه المراكز البارزة في واشنطن تعمل لصالح مموليها العرب أو الداعمين لإسرائيل». 
وتؤكد المجلة ذلك الاستنتاج باقتباس من الباحث بمعهد بروكنجر شادي حميد، الذي كتب مقالاً في المجلة نفسها، قال فيه: «إن الأسد حصل على جائزة كبيرة لاستخدامه السلاح الكيماوي، فبدلاً من أن يعاقب فإنه قد استطاع إزالة التهديد الأميركي بلا مقابل».
تقول المجلة: إن أوباما رئيس شديد الثقة بنفسه وهذا ربما ما مكنه من فرض سياساته ومعاندة الجميع، والمثال البارز على ذلك هو الاتفاق النووي مع إيران. كيف عارضت إسرائيل والكونغرس واللوبي والخليج العربي الذي كان يحرص على ضرب إيران أكثر حتى من إسرائيل، مستخدماً ما لديه من نفوذ ومال ومراكز دراسات، وكذلك كثير من مستشاري أوباما، إلا أنه لم يرضخ لضغوطات كل هؤلاء ليصل إلى الاتفاق مع إيران.
يشير أوباما إلى السعودية باعتبارها جزءاً من الأزمة في المنطقة ولها أدواتها التي برزت في سورية بالرغم من أنها حليف إلا أنه يقول: «قلنا إن على السعوديين أن يتشاركوا الشرق الأوسط مع أعدائهم الإيرانيين. المنافسة بين السعوديين والإيرانيين ساهمت في تغذية حروب بالوكالة. فوضى في سورية والعراق واليمن. علينا أن نقول لأصدقائنا وللإيرانيين على السواء: إن عليهم أن يجدوا طريقة فعالة ليتشاركوا الحوار ويقيموا سلاماً بارداً .. بينما تستمر هذه الصراعات الطائفية في الاشتعال ويقف شركاؤنا الخليجيون وأصدقاؤنا التقليديون عاجزين عن إخماد النيران أو تحقيق نصر كبير بأنفسهم سيكون علينا أن نتدخل ونستخدم قوتنا العسكرية لتصفية الحسابات، وهذا لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة أو الشرق الأوسط.
في المقابلة الهامة، يعبر الرئيس أوباما عن يأسه من التغيير في المنطقة العربية والدول العربية إذ يضع صورة متشائمة تعكس حقيقية الوضع القائم حين يقول: «حالياً لا أظن أن أحداً يمكنه الشعور بالرضا عن الوضع في الشرق الأوسط. ترى دولاً تفشل في تحقيق الازدهار وتوفير الفرص لشعوبها وأيديولوجيات عنيفة متطرفة تشحن توربينياً خلال شبكات التواصل الاجتماعي .. ترى دولاً لا تتمتع سوى بالقليل من التقاليد المدنية».
لكن الجملة الأخطر التي قالها في هذه الدول التي تعيش الاستبداد: «ما أن يبدأ الضعف يعتري نظمها الاستبدادية لا تجد سوى مبادئ حاكمة سوى المبادئ الطائفية».
أوباما يعتبر أن إحدى أشد القوى تدميراً في الشرق الأوسط هي القبيلة، وهي الكفيلة بإغلاق أي مستقبل أمام هذه الأمة، فالدول العربية بنظره هي مجموعة دول فاشلة متسلطة وإذا ما حدث أي خلل فإن القبيلة هي النزعة الكامنة المدمرة التي تظهر لتعبر عن نفسها بأحد أشد أدوات الفتك والتخلف والعودة إلى القرون السابقة بعيداً عن الحداثة، فأوباما يقول في مكان آخر في المقابلة، بما يثير الجدل الذي لم يثار حتى اللحظة بمضمونه الفكري لدينا: إن «صراعات الشرق الأوسط تعود لآلاف السنين».
صحيح أن الولايات المتحدة وإسرائيل إلى حد ما ساهمت في تغذية الصراعات العربية، وإسرائيل دعمت الصراع المذهبي، لكن الحقيقة التي نتجاهلها جميعا هي أن هذا العالم العربي لم تغمد سيوفه منذ أكثر من ألف عام قبل وجود الولايات المتحدة وإسرائيل والأهم أن البيئة العربية لا زالت خصبة لإنتاج كل هذه الصراعات بيئة الكراهية والعنف.
لكن الرئيس أوباما خلال فترتي حكمه توصل إلى استنتاجات تتعلق بالمنطقة جاءت على لسانه وهي: 
الأولى: إن الشرق الأوسط لم يعد بالغ الأهمية بالنسبة للمصالح الأميركية، وقد اتضح ذلك من خلال أدوار أكثر هامشية في بعض الملفات في المنطقة، منها: الملف الليبي والسوري واليمني والملف الفلسطيني حتى، وهذه نتيجة علينا قراءتها جيداً.
الثانية: حتى لو كان الشرق الأوسط أكثر أهمية فلن يكون بإمكان أي رئيس أميركي الكثير ليفعله ليجعله مكاناً أفضل.
الثالث: هو أن النزعة النظرية لإصلاح المشاكل التي تظهر أشد ما تظهر في الشرق الأوسط تؤدي ولا بد إلى الحروب. استنتاجات هامة وانطباعات صادمة قد تكون جزءاً من وصايا أوباما للرئيس القادم، والحقيقة هي أن الولايات المتحدة في عصر أوباما بدأت كأنها تنفذ انسحاباً هادئاً من هذه المنطقة. 
فهل تكون تلك سياسة خاصة للرئيس أم مقدمة لسياسة أميركية قادمة؟ 
أغلب الظن أن الولايات المتحدة أصيبت بالإعياء واليأس من الجنون الذي انفجر في المنطقة، وأنها قد بدأت بالبحث كما يقول أوباما عن مناطق أفضل للمصالح الأميركية مثل آسيا وأميركا اللاتينية، فهناك مصالح جديدة للدولة العظمى ولم يعد البترول بعد الاكتشافات الكبيرة للذهب الأسود في الولايات المتحدة نفسها عنصراً رئيساً في السياسة الدولية .. 
يبدو أن أوباما قد بدأ بإدارة مقود المصالح الأميركية بعيداً عن الشرق الأوسط مطمئناً إلى أن إسرائيل هي الدولة التي لم يعد ما يهددها في ظل نظام القبيلة العربية، لكنه يلسع في المقابلة نتنياهو كأنه يقول: كانت هناك فرصة لنتنياهو وأضاعها. سيدفع الثمن تاركاً كل شيء للزمن بما فيها العرب..!

Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد