قبل أربعين عاماً خلّد الشعب الفلسطيني أرضه بملحمةٍ وطنية عزّ مثيلها في التاريخ الذي نعرفه.
علاقة الفلسطيني بأرضه علاقة ملحمية بكل المقاييس. من المؤكد أن كل شعب من شعوب هذه الأرض يعشق أرضه، ومن المؤكد أن تاريخ الشعوب كلها انطوى على هذه الدرجة أو تلك من تجليات حب الشعوب لأرضها والدفاع المستميت أحياناً عنها. ومع ذلك تبقى للشعب الفلسطيني وعشقه لأرضه حكاية خاصة.
يعتبر الاجتياح الصهيوني لفلسطين حدثاً فريداً في التاريخ من زاوية التزوير التاريخي لرواية وجود هذا الشعب على أرضه، ومن زاوية الفبركة التي تمت وتأسست لإحلال الرواية التي حاولت «تبرير» الصهيونية العالمية لهذا الاجتياح.
ويعتبر الاجتياح الصهيوني كمشروع استعماري خالص من حيث الجوهر والمضمون والأبعاد والأدوات والأهداف، وكمشروع قائم على الإقصاء والتبديد والاحلال ومحاولات التصفية والتدمير حدثاً فريداً، أيضاً.
إذ لم يسبق أن تم اقتلاع شعب بهذه الصورة من الفظاعة والظلم، ولم يسبق للمستعمرين أن «ادعوا» حقوقاً «كالحقوق» التي صنعتها القوى الاستعمارية والصهيونية لليهود في فلسطين.
وحتى عندما كانت القوى الاستعمارية تعلن عن تمسكها المطلق «بحقها» في وجودها الاستعماري في المستعمرات، وعندما كانت تعلن عن أن هذه المستعمرات هي بمثابة حقوق «أبدية»، وان أرض تلك المستعمرات لا تختلف عن أي أرضٍ من الأراضي «الوطنية» للدولة المستعمِرَة فإن هذه القوى الاستعمارية لم تتمكن أو لم تستطع فبركة مشروع متكامل كما تم فبركة المشروع الصهيوني في فلسطين على كل الصعد، وفي مختلف المجالات وبدعم وإسناد مطلق من الغرب.
كان الاستيلاء على الأرض هو محور هذا المشروع، وما زال هذا المحور هو الهدف المباشر والفكرة الموجهة لكامل هذا المخطط منذ ما يزيد على مئة عام حتى الآن.
لم تُكتب «بعد» الملحمة الحقيقية لدفاع الفلسطيني عن أرضه، ولم يتمكن الأدب الفلسطيني بعد أن يعكس حالة العشق الدامية بين الفلسطيني وأرضه، حتى وإن تمكن الأدب السياسي من هذه المسألة بصورة كافية قليلاً أو كثيراً في بعض المراحل من تاريخه الحديث.
ومع أن بعضنا لا يحبّ حالة المقارنة بين ما جرى لشعبنا وما جرى للهنود الحُمر، إلاّ أنني أرى أن التشابه عميق إلى أبعد الحدود إذا ما نظرنا للأمر من زاوية البعد الوجداني على وجه الخصوص.
القائد الهندي «سياتل» الذي تحمل ولاية سياتل اسمه اليوم، ربما يكون المثل الساطع على هذه العلاقة الوجدانية المؤلمة في علاقة الإنسان بأرضه.
هذا القائد الهندي قبل أن يعلن «استسلامه» لقوات «البيض» ألقى بشعبه خطبةً أجدها من أجمل وأعمق أنواع الأدب.
قال سياتل لشعبه بما معناه: إن الخسارة الحقيقية للأرض لا تكمن في أن هذا «الأبيض» سيستولي عليها وإنما تكمن هذه الخسارة في أن هذا الأبيض لا يعرف قيمتها الحقيقية، فهو (أي الأبيض) لا يعرف ولا يدرك جمال طبيعتها وليس لديه معرفة ولا اهتمام بالأعشاب والشوك والزهر وكل هذه الجمالية.
هذا «الأبيض» سيدمّر كل شيء ولا يأبه بهذه الطبيعة لأنه لا يعرف أن يتعامل معها وليس له من هدف سوى تدميرها.
أي ألم هذا الذي شعر به هذا القائد الشاعر وهو يرى «الأبيض» وهو يهمُّ بالأرض للاستيلاء عليها ويحوّلها إلى مستعمرة ويفصّلها على مقاسه، وعلى رغباته ووفق ثقافته الاغتصابية والاستئصالية؟
أي عشقٍ للأرض أجمل من عشق هذا الهندي، واي رابط ما بين الطبيعة والإنسان يمكن أن يكون بمستوى هذا العشق؟
أي ألم يعتصر الفلسطيني وهو يرى الجرّافات تلتهم شجرة الزيتون في أرضه، وأيّ غصّة يشعر بها الفلسطيني وهو يرى أرضه تفلت من بين أصابعه في كل يوم؟
وإذا كان قد تم نزع الفلسطيني ونزع أرضه منه بالقوة في بداية المشروع الصهيوني بعد الحرب العالمية الثانية واستقر الأمر بقيام دولة إسرائيل على أنقاض وطنه الذي كان يرزح تحت الانتداب، فقد تمت السيطرة على بقية أرضه بعد حرب حزيران وهي اليوم كما كانت الهدف المعلن للمشروع الصهيوني في حلّته الجديدة.
ما يميز المرحلة الجديدة هو أن إسرائيل قد تغيرت بصورة كبيرة وجرى داخلها من التحولات ما يجعل الأرض ليس مجرد هدف مباشر للمشروع الصهيوني المتجدد وإنما ـ وهذا هو الأخطر ـ تحول الصراع على الأرض والاستيلاء عليها إلى الأداة الرئيسية «لتقويض» المشروع الوطني ومحاولة إنهاء قواعده المادية والتي تمثل الأرض فيه قاعدة الارتكاز الرئيسية.
كانت الأرض هي الهدف وما زالت، واليوم هي الهدف والأداة لإنهاء كل أحلام الفلسطيني وطموحاته وحقوقه. فإذا كان الاستيلاء على الأرض قبل ما وصل إليه الوضع في إسرائيل اليوم هو السبيل لترسيخ المشروع الصهيوني في نوع من الدفاع الاستراتيجي عن المشروع الصهيوني، فإن مصادرة الأرض وتهويدها اليوم هو نوع من تدشين مرحلة جديدة من الهجوم الاستراتيجي بهدف تصفية الركائز المادية للمشروع الوطني التحرري للشعب الفلسطيني. لهذا فإن للأرض في يومها الخالد هذه الأيام خصوصية كبيرة، إذ أن المشروع الوطني نفسه بات يتعلق إلى حدٍ كبير بقدرة الشعب الفلسطيني على الدفاع عنها وعلى التشبُّث بها وإلى تعلُّم فنون العشق بحبها.
على هذه الأرض تدور المعركة، وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة، ويستحق العشق والتضحية، أيضاً.
للأرض الفلسطينية في يومها الخالد حكايات مؤلمة، ذلك أن للعشق دوماً طعم الألم.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد