173-TRIAL- لعل أكثر غاية يلّح المسؤولون الإسرائيليون وفي مقدمهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على ترسيخها في أذهان العالم برسم الحرب العدوانية الشرسة الحالية على قطاع غزة ، فضلاً عن الظهور بمظهر الضحيّة الأبدية، هي استبعاد أي مقارنة بين إسرائيل وبين " حماس ".
وفي هذا الشأن فإن وزيرة العدل تسيبي ليفني بزّت الجميع بقولها إنه لا وجه للمقارنة بين إسرائيل و"حماس"، فهذه الأخيرة تقتل المدنيين على نحو متعمّد في حين أن دولتها تقتل المدنيين من دون قصد. وأضافت بشكل جازم أن هذا هو الفارق بين القتل والقتل العمد.
وكان يُفترض بليفني باعتبارها قانونية وليست سياسية فقط أن تعلم علم اليقين أن حتى من يُتهم بالقتل غير العمد يعاقب أيضاً بالسجن فترة طويلة.
في واقع الأمر، ليست هذه هي الحرب العدوانية الأولى التي تقوم إسرائيل بشنّها على غزة خلال العقد الأخير، لكن ما يمكن ملاحظته من الوقائع التي تراكمت إلى الآن، أن ما تعيثه الآلة العسكرية الإسرائيلية من قتل وتدمير يبدو مبرّراً ومشروعاً في نظر الكثير من الإسرائيليين.
ومرة أخرى تنشدّ الأنظار من ضمن أمور أخرى إلى أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية في أثنـاء الحرب.
وأول ما يمكن استنتاجه في هذا الصدد أن وسائل الإعلام هذه في معظمها كانت لها حصة الأسد في زيادة الضبابية والغموض أكثر من المساهمة في الكشف والتعرية والإيضاح، وبعضها تعدّى ذلك إلى تبرير وسائل القوة المفرطة التي استعملتها آلة القتل والعدوان الإسرائيلية خلال الحرب وما تزال، ناهيك عن تبرير الحرب نفسها.
ويبدو أن الهدف من وراء ذلك يتمثّل بتشويش الوعي إزاء صور الأطفال القتلى في غزة وحجم وأبعاد الخسائر الهائلة في صفوف السكان المدنيين، ولا سيما عندما باتت تُعرض بوتيرة متزايدة في وسائل الإعلام العالمية، بقصد إشاعة شعور عام مفاده أن "وسائل الإعلام العالمية ضد إسرائيل". وهو شعور ليس مضللاً فحسب وإنما الهدف منه أيضاً التعمية على معاناة الفلسطينيين تحت وطأة ما يُرتكب بحقهم من جرائم إسرائيلية.
وتتعامل وسائل الإعلام الإسرائيلية - إلا فيما ندر- بلامبالاة كبيرة ومثيرة للتقزّز مع قدرة المجتمع الإسرائيلي العلنية والكامنة على التسليم بقتل مئات الأطفال، بعضه بتفهم، وبعضه بموافقة، وبعضه الآخر حتى بحماسة شديدة.
ومع أنه كانت هناك أصوات إسرائيلية قليلة قالت إن هذه الحرب ليس فيها أسود أو أبيض فقط، بل إن فيها ألواناً رمادية كثيرة تتطلب تمييزاً حذراً، إلا إنه خلافاً للحروب السابقة تمّ النظر إلى هذه الأصوات في الحرب الحالية كما لو أن أصحابها منبوذون وخونة آثمون يستحقون السحل في الميادين العامة.
قبل عشرة أعوام نشر الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي غابي أشكنازي شهادة شخصية تطرّق في سياقها إلى الآثار البعيدة المدى للانتفاضة الفلسطينية الثانية على أداء هذا الجيش، مشيراً إلى أن ثمة خشية لدى البعض من أن يفقد الإسرائيليون إحساسهم الإنساني نتيجة استمرار الحرب. وطبعاً فعل هذا من دون أن يحمّل نفسه عناء إلقاء المسؤولية عن ذلك على عاتق سياسة دولته بمجرّد إصرار حكوماتها المتعاقبة على مواصلة الحرب والعدوان.
وعلى ما يظهر فإن ما قاله أشكنازي بات على مستوى الصيرورة واقعاً أنتجته إسرائيل في حروبها اللاحقة منذ ذلك الوقت، وبلغ ذروة جديدة في أثناء الحرب الحالية.
وفي معرض إجمال حصيلة الحرب الإسرائيلية العدوانية قبل السابقة على غزة (2008- 2009)، قال أحد أنصار السلام اليهود إن إسرائيل تحولت من "فيللا في غابة (الشرق الأوسط)" إلى وحش آخر في هذه الغابة.
وتوصيف "فيللا في غابة" أطلقه رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك على إسرائيل، وهو يعبّر عن ماهية نظرة إسرائيل وأغلبية سكانها اليهود إلى الشرق الأوسط، فمن حولهم الهمجية والخراب والتخلف والأصولية، بينما هم فقط هنا، في "فيللتهم"، المتحضرون والمتقدمون. وقد أراد باراك بتعبيره هذا التأكيد على نحو خاص أن إسرائيل في الشرق البدائي المتخلف تمثل الغرب المتحضر، وقدّم أيضاً تسويغاً "فكرياً" عندما أضاف: إننا (يقصد الإسرائيليين اليهود) ننتمي إلى التقاليد اليهودية- المسيحية، التي يفتقر العرب إليها ولذلك فإنهم لا يستطيعون التمييز بين الحقيقة والكذب… ومقولة باراك هذه ليست جديدة، بل هي ذريعة قديمة معروفة تتكرّر عندما يقول غيره من زعماء إسرائيل "نحن لا نعيش في سويسرا أو إسكندينافيا، وإنما في الشرق الأوسط". وزعماء الصهيونية في الماضي كانوا يمتلئون أيضاً بالاستعلاء والغطرسة تجاه محيطهم، فقد شرح ماكس نورداو، المساعد الأول لهرتسل، في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897 بأن شعوب آسيا "منحطة". وأراد دافيد بن- غوريون نشر وبعث النور للأغيار من خلال "الفيللا"، ومن داخل "الفيللا" خرج بالفكرة العجيبة عن الشعب الفريد من نوعه، شعب الله المختار.
منذ ذاك الوقت ازداد هذا الوحش شراسة. ومسألة وجوده كوحش آخر في غابة قابلة للتفنيد ببساطة لكن مكانها ليس هنا، كون الأمر الأهم أن سبب هذه الشراسة كان وما يزال يعود إلى عوامل مرتبطة بـ "أخلاق" سكان "الفيللا" أكثر من ارتباطها بأخلاق المحيط.
ولدى إجراء متابعة سريعة لأداء الحلبة السياسية والحزبية في إسرائيل منذ أول أيام الحرب الراهنة، من غير الصعب الخروج باستنتاج فحواه أن ثمة انعداماً لفوارق سياسية جوهرية بين شتى الأحزاب الصهيونية في كل ما يتعلق بالموقف من مصير الاحتلال والعلاقة الإستراتيجية مع الشعب الفلسطيني، وبالموقف من حق هذا الشعب الرازح تحت الاحتلال في المقاومة متعددة الأشكال.
وبناء عليه ليس من المبالغة القول إن انعدام الفوارق السياسية يملي الآن أيضاً غياب أي حدود أو خطوط حُمر أخلاقية. وهو ما يحيل إلى احتمال تفاقم الوضع لناحية ما هو أشدّ وأدهــى. 52

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد