مثلما استفادت الولايات المتحدة من تجربتي الإخفاق في أفغانستان والعراق، ودفعت الثمن باهظاً بشرياً ومالياً، استفادت روسيا من هزيمتها القاسية واحتلالها العسكري لأفغانستان، فالتدخل الأميركي والروسي خارج حدودهما يستهدف حماية مصالحهما، وإيجاد أنظمة تابعة أو حليفة تخدم مصالحهما، هذا هو المنطق والحقيقة الناصعة وبوصلة التحرك والتدخل الأميركي والروسي حيث أحجمتا عن التدخل الأرضي المباشر في العراق وسورية، وتركتا ردع المعارضة والتصدي لها للجيش العراقي نفسه على أرضه، وللجيش السوري كي يؤدي مهامه، بدعم من قبلهما، لا أن يُقاتل الأميركيون والروس بديلاً عن أحد  كما حصل لهما ومعهما في أفغانستان مثلاً، وهو ما يجب أن نتعلمه نحن العرب ونستفيد منه، ومفاده أن لا نراهن على أطراف خارجية بسبب المبادئ أو القيم، بعيداً عن المصالح، وعلينا أن نبحث عن الشراكة مع الدول الكبرى ذات المصالح العابرة للحدود، وأن لا نغفل مصالحنا أو نتوهم أن الآخرين سيتدخلون لحماية مصالحنا الوطنية أو القومية أو يحررون أراضينا بدلاً عنا. 
ففي المنطق الفاقع، والمشهد العاري أن هناك أراضي لبنانية محتلة من قبل المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وأراضي الجولان السوري كذلك، وفلسطين بأكملها تئن تحت بساطير الغزاة، والشعب العربي الفلسطيني يتوجع من ظلم الاحتلال وقسوته وتدميره للبنية التحتية، ويحرم الفلسطينيين أدنى حقوقهم الإنسانية في البقاء ومن مصادر الحياة ويجعل أرضهم طاردة لأهلها، فمن هو المتبرع المتطوع كي يشكل رافعة لشعبنا نحو استعادة حقوقه في المساواة في مناطق 48، والاستقلال لمناطق 67، والعودة للاجئين ؟؟. 
الفلسطينيون حينما حوّلوا قضيتهم وعناوينهم من قضية لاجئين غلابى شحادين، يتوسلون لقمة العيش، الى شعب له قضية ووطن يتوسل الحرية والعودة، وصنع لنفسه قيادة واطاراً سياسياً موحداً اسمه منظمة التحرير بدأ المجتمع الدولي يتفهم قضيته، ويتحسس مطالبه، ويقبل مناقشتها والاقتراب منها والاعتراف بها على طريق انتصارها، ولما تفسخ الفلسطينيون وتشرذموا وانقلبوا وغيروا أولوياتهم من النضال ضد العدو الواحد، الاحتلال، وباتت أولوياتهم السلطة وتقاسم الكعكة قبل أوانها والاختلاف على السمكة قبل اصطيادها، وبات لهم برنامجان وسلطتان وحكومتان لا تملكان القدرة على تلبية احتياجات موظفيها وتعتمد على التمويل الأجنبي المسيس والمشروط لتغطية رواتبهم، لم يعد لفلسطين مكانتها وحضورها لا عند العدو، وليس لدى الصديق. 
روسيا كانت حاضرة في سورية منذ بداية الربيع العربي للمراقبة أو للاستشارة، وحينما مالت موازين القوى لصالح المعارضة السورية المسلحة، تدخلت مباشرة في بداية شهر تشرين الأول 2015 لمساعدة الجيش السوري وتوفير الغطاء له، ولكنها لم تقاتل نيابة عنه، ولذلك لم يسقط لها ضحايا وعاد مقاتلوها الى وطنهم كاملي الهمة والمعنويات بعد أن أدوا دورهم في مساعدة النظام السوري ونجحوا في ذلك عبر تغيير موازين القوى على الأرض لمصلحة الرئيس الأسد. 
تدخل روسيا في سورية يعكس فهم موسكو لمصالحها ولحماية هذه المصالح وهي ثلاث أولها أمني بهدف مقاتلة الفريق الشيشاني الذي يقاتل مع المعارضة السورية والمعادي لروسيا، والتخوف الروسي المشروع من انتصار المعارضة السورية ومعهم الشيشان، ستكون نتيجته عودة الشيشان من موقع قوة لمقاتلة الروس على أرضهم، ولذلك سعت روسيا لمحاربة الشيشان ومقاتلتهم مسبقاً على أرض سورية وإضعافهم خارج أراضيها، ويبدو أن مقتل زعيمهم عمر الشيشاني هو عنوان الثقة الروسية بالنتائج التي حققوها واكتفوا بها بعد أن تيقنوا من قدرة النظام السوري على مواصلة طريقه وصموده في وجه المعارضة المسلحة. 
وثاني المصالح الروسية اقتصادي بهدف منع مد أنبوب غاز قطري من الدوحة نحو أوروبا مروراً بسورية بديلاً عن أنبوب الغاز الروسي الذي يغذي أوروبا ويوفر لها الدفء، والمشروع القطري سيؤثر على المصالح الروسية الاقتصادية والسياسية ويضعفها، ولذلك عملت على إحباطه وإفشاله سلفاً، عبر تدخلها وإسناد النظام ومنع المعارضة المدعومة خليجياً من تحقيق حلمها في اسقاط النظام.
أما عنوان المصالح الروسية الثالث فهو المصالح الإستراتيجية الكونية العابرة للحدود، كدولة فاقت من عزلتها الداخلية واستعادت حيويتها، بعد تراجع دورها على خلفية هزيمة السوفييت وزوال المعسكر الاشتراكي، وهي اليوم تستعيد عافيتها وتمددها، وقد أعرب الروس لمسؤول عربي مع بداية الربيع العربي قولهم له « لقد خطفت الولايات المتحدة العراق وليبيا في غفلة من الموقف الروسي ولن نسمح لهم أن يتكرر ذلك في سورية». 
روسيا تدخلت عسكرياً في سورية، ولكن تدخلها لم يكن ضد إرادة الأميركيين والأوروبيين ورغبتهم، بل تم ذلك بالتفاهم معهم وبرضاهم لسببين جوهريين: أولهما تدفقات اللاجئين السوريين التي أحرجت أوروبا وخلقت لديها أزمة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، وثانيهما سلسلة العمليات الإرهابية من قبل «داعش» و»القاعدة» التي ضربت قلب أوروبا في أكثر من مكان، ما جعل التدخل الروسي ضرورياً في سوريا للحد من نفوذ المعارضة السورية على مختلف تصنيفاتها المسلحة، وبما لا يتعارض مع المصالح الأميركية والأوربية. 
لقد وقع التفاهم الأميركي الروسي منذ زيارة جون كيري لموسكو يوم 14/ كانون الأول 2015، وصدور قرار مجلس الأمن 2254 يوم 18 / كانون الأول 2015 بالإجماع، وقرارات مؤتمر الدول المساعدة لسورية يومي 11 و 12 شباط 2016، وصدور قرار وقف إطلاق النار بدءاً من 28 شباط ونجاحه واستمراريته للآن، ومن قبله التفاهم الأميركي الإيراني بمشاركة الدول الكبرى وتوقيع الاتفاق النووي يوم 15 تموز 2015، وصدور قرار مجلس الأمن 2231 يوم 20 / تموز 2015 ونجاح تطبيقاته، ما يدلل على أن المناخ المقبل في المنطقة العربية يسير نحو التسويات ولجم الحروب البينية، ولهذا سحب الروس أغلبية قواتهم ومعداتهم وبقوا كما كانوا من قبل مراقبين مستشارين. 
h.faraneh@yahoo.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد