161-TRIAL-

نصائح لا تصل......  بقلم دكتور عاطف أبو سيف

من يلملم الشظايا، من يجمع الركام، من يخيط للحزن برقعاً يحافظ على انسانيته، أو يقنع الطيار أن ثمة انسانية مفقودة مستباحة في بشاعة اعماله. من يقول له أن الحياة التي يحياها لا تستقيم إذا لم أعش أنا حياة مثلها، ان الحياة لا تكون على بقايا الحياة. من يمسك الغضب الطافح من السماء، الحمم النازلة أسرع من خيل امرئ القيس. من يقنع الطيار أن سكان غزة ليسوا شخصيات وهمية في لعبة فيديو يلهو بها من خلف شاشة طائرته، أو داخل قاعدته العسكرية. من يقنعه ان البيوت التي يراها خلف الشاشة ليست رسومات في تلك اللعبة، بل هي بيوت فيها غرف وحجر وصالونات وحمامات، وأن داخلها أطفالا يلعبون ويلهون وان فوق أسرتهم معلقة ألعاب، دببة وقطط واجراس. من يقنعه أن الأشجار التي يراها خلف الشاشة ليست بلاستيكية وثمارها ليست مجرد كرات من الصوف بل هي أشجار سقيت بعرق السنين وجهد العمر، وانها لصيقة بالجسد والروح، وان أجيالاً طويلة رعتها وقامت عليها، وأن بعضها أقدم من التوراة، واكثر التصاقاً بالأرض من كل الأساطير الكاذبة. من يقنع الجندي في قلب الدبابة أن دبابته ليست لعبة، وان ما يراه من خلف سارته ليست أشباحاً بل أناس من لحم ودم، وان الرجل النائم في شقته في ابراج الندي مع أطفاله الثلاثة ليس صورة في قصة أطفال، بل هو حقاً أب لديه أطفال خائف عليهم من فوهة مدفع دبابته. وأن البنايات العالية في أبراج الندي ليست صوراً غير محمضة في نيجاتيف قديم عثر عليها في حقيبة والده المهاجر من رومانيا، بل هي بنايات تحتوي على شقق وفي كل شقة حياة وحكاية، وداخل كل حكاية عشرات الحكايات الفرعية، في متواليات سردية لا يمكن لأكبر روائي في العالم ان يسمك بها، وان رشقات مدفعيته تحرم البشرية من كنوز لا عد لها.

من يقنع الخيمة التي انتصبت وسط مدارس وكالة الغوث إنها ذات الخيمة التي نصبت في المكان ذاته قبل ستة وستين عاماً، وان الحزن ذاته لا يتجرا ولا يختفي ولا يذهب بل يعيد انتاج نفسه بصورة اخرى بمشهد آخر عبر وقائع جديدة، لكن المخرج ذاته: إنه المستوطن الذي جاء من كل بقاع الآخر ونهب أرضاً قال إن الحكاية التي صدف ان ابتدعها أوقعت اسمها سهواً في المتن فصارت هي، أي تلك الأرض، جوهر الحكاية المزعومة، ثم سقطت الحكاية وبقيت الأرض مسرحاً لخيالات وأمكنة لم تتعرف عليها الجغرافيا ولا عثر عليها علماء الآثار المشغولون دوماً بنفي النفي وإثبات الحكاية. من يقنع الخيمة ان المخرج يستمتع باعادة تكرار المشهد ذاته: آلاف الأبرياء يحملون آلامهم وجراحهم، يلفون أحلامهم في صرر مهترئة ويجرون وسط الليل المعتم الموحش لا يرون الطريق تحت خطو اقدامهم إلا كلما وضمت السماء من بريق القذائف والحمم التي تتقيئها الدبابات والبوارج والطائرات. نفس المشهد. كل الفيلم منذ قرابة قرن من الزمن حين قرر اللورد المشؤوم وعده بسلب فلسطين ومنحها للغرباء. الفيلم الأضخم في التاريخ والأطول بل هو أطول من كل ما انتجبته البشرية في أكثر من قرن من عمر السينما مجتمعة، لا يتكون إلا من مشهد واحد: مشهد القتل والترويع الهادف فقط تشريد الناس وطردهم. مشهد اللجوء البشع بكل ما يحمله من استعادات قاسية للحظات أكثر مرارة. لا يجب للفلسطيني أن ينسي. عليه أن يتذكر دائماً أنه لاجيء، انه في وضعيه لجوء مستمر. عليه أن لا يحلم بالاستقرار. لذا فغن كل الهجمات والقصف والتنكيل بالبيوت والبشر والشجر تتم في أغلبها في الليل لأن الليل وقت الراحة والهجوع، ولا راحة لك بالمطلق. عليك أن لا تصدق أنك يمكن أن تنعم بحياة آمنة مستقرة. وليست السويعات وربما الأشهر في اطول حال التي تحظي بها ببعض الوقت لبناء البيت، كما فعل صديقي عثمان حسين وبني بيتاً جميلاً دمرته الطائرات في رمشة عين، إلا الفواصل والوقفات للدعايات في وسط الفيلم. فهي ليست جزءاً منه وليست مشهداً فيه. فالأساس هو حالة اللجوء والتشرد تلك. كأن ثمة حكاية مركبة فوق حكاية اخرى، وثمة تراكيب وصور وأخيلة يتم نسجها بأقمشة سميكة تعيد ترتيب المشاهد. لأن الحكاية لا تكتمل دون حكاية أخرى. فالفلسطيني هكذا منذ فجر التاريخ، وفجر التاريخ مثل كل كتب التاريخ التي يكتبها الطغاة، يبدأ حين بدأ عمر الطاغية، مشرد لا مكان له، بل إن وجوده في هذه الأرض كان دائماً تحت خيمة، والخيمة زائلة لأنها شيء مؤقت، فحياته مؤقتة بأي حال.

من يقنع الجندي في البارجة البحرية أن جعل أجمل شيء تمتلكه غزة جحيماً. البحر رئة غزة الوحيدة وصورتها الأجمل على جدار البيت صار مصدراً للحمم واللهب. ان بارجته تقذف الموت وليس نسيم البحر، أن البحر هذا ذاته البحر الذي يحلم الفلسطينيون أن يعبروه إلى يافا مدينتهم وفردوسهم المشتهى. أن السمك ذات السمك والبحر ذات البحر. من يقنعه أن اولاد بكر الأربعة لم يكنوا يفكرون في تفجير البحر، ولا في تلويثه، ولا في تعكير صفو المستجمين على الشاطيء في تل أبيب، بل كانوا يهربون من ضيق البيت وحرارة الصيف والعرق والرطوبة والحلق الجاف من الصيام، يهربون يسرقون لحظات أقل عناءً. ان البيوت المصطفة على الشاطئ ليست رسومات باهتة في دفتر رسم لتلميذ فاشل في الرسم، بل هي حقاً مدينة بها من الحياة ما تستطيع لولا حمم بارجته اللعينة.

من يقنع الساسة أن الإنسان اهم شيء، أنه نعمة الله فهو خلقه على هيئته وأصبغ عليه اسمه وجعله بطلة ملحمة الوجود والبعث. من يقنع العالم انه لا يشاهد فيلم رعب ولا مسلسلاً هندياً طويلاً لا يموت فيه الأبطال، بل إنه يجلس في قاعةن السينما على كراسي من جثث كان له يد اولى وطولى في قتلها عبر قرارته الجائرة.

ليس لهم أني قتنعوا، وليس للطيار او يقتنع، وليس للجندي في الدبابة أن يقتنع، وليس لأحد ان يفعل شيئاً،وليس للجندي في البارجة البحرية أن يصحو من غفوة الموج. ليبق الكل نيام في سبات حتى يصحو على الكارثة.

ليس لغزة أحد إلا غزة، وليس للناس من أحد إلا قدرتهم على أن يكونوا انفسهم، يكونوا مثلما كانوا فلسطينيين حتى حين داستهم احلام وشجع غيرهم واستولت على احلامهم وبنت فوق بيوتهم بيوتاً. ليس للبحر ان يغضب أكثر، لو انه يطفو على كل النواحي، او يجف خجلاً. الحكاية ليست مستعادة مرة اخرى، ولا هي مروية بطريقة مختلفة، إنها ذات القصة بذات الشخوص، بذات الصمت وبلا خجل رغم كل شيء.

282

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد