باريس.. عاصمة تقطر عسلاً!

باريس

باريس / سوا / باريس المدينة الصّاخبة التّي لا تنام، السّاحرة بمبانيها وجامعاتها، الآسرة بمتاحفها ومكتباتها، تحتضن نحو 600 خليّة نحل وكلّ خليّة فيها 40 ألف نحلة على الأقل تنتج أطناناً من أفضل أنواع العسل في فرنسا كلّها، «سيّدتي» حقّقت في هذه الظّاهرة الطّريفة بتربية النحل، فوق سطوح مباني باريس، وكشفت سرّ هذه «الموضة» التّي استقطبت اهتمام العديد من الباريسيّين والباريسيّات.

أسراب النّحل المنتجة العسل، هاجرت من الرّيف الفرنسيّ إلى باريس من المبيدات الكيماويّة المستعملة بكثرة، واستوطنت سطوح المباني القريبة من الحدائق والمتنزهات، حيث تراوحت نسبة هلاك النحل في القرى بين30 و40%، في حين أنّ هذه النّسبة لا تتجاوز3 أو4% في المدينة، وأثبتت دراسات أنّ النحل في المدينة أصبح ينتج كمّيات من العسل تفوق خمس مرّات ما ينتجه النحل في الرّيف، كما أنّ نوعيّته أكثر جودة وأطيب مذاقاً، وسرّ ذلك أنّ المدينة بها حدائق وشوارعها مزدانة كلّها بالأشجار، وبها مناطق خضراء كثيرة وغابات وكلّها مرتع للنحل.

النّحلة الواحدة في باريس ترعى 700 زهرة في اليوم في محيط بين 3 و5 كم، من موقع الخلية ومدينة الأنوار، بها أكثر من 150 نوعاً من الزّهور المختلفة، والنباتات المتنوّعة، وبها أكثر من نصف مليون شجرة، وهناك مخطط لإضافة 300 ألف شجرة أخرى، خلال الأعوام المقبلة.

تربية النحل في مدينة باريس ليس أمراً جديداً، فمنذ منتصف القرن التّاسع عشر الميلادي، ومع ازدهار الثورة الصناعية، حدث نزوح عدد كبير من الريفيين والمزارعين إلى باريس، بحثاً عن فرص حياة أفضل، وانتقلت معهم بعض عادات الريفيين والفلاحين، ومن بينها تربية النحل.

بين دويّ المدافع وطنين النحل
مبنى «المدرسة العسكريّة»، يقع في الدّائرة السّابعة في باريس، غير بعيد عن برج «إيفل»، ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الثّامن عشر، ويضمّ الأكاديمية العسكرية الفرنسيّة، والمارّ من أمامها قد يسمع طنين النحل؛ إذ توجد فوق سطوحها خلايا نحل يشرف على تربيتها شاب في الثالثة والثلاثين من العمر، هو أودريك دي كامبوAudric De Campeau يقول: «هناك تجارب لا يمكن أن نحياها إلا مرة واحدة في الحياة، ومن بينها التجربة التّي أعيشها في تربيّة النحل فوق سطح مبنى «المدرسة العسكرية».


مغازات «مونوبري»، وهي سلسلة شهيرة من السوبر ماركت في فرنسا، أصبحت تبيع ما تنتجه من عسل تستخرجه من خلايا النحل فوق فرعين لها في «تارن» و«بورت شاتيون» بباريس، وقد أنتجت في الأعوام الأخيرة 520 كيلوغراماً، قامت بتعليبها وبيعها، كما أنّ شركات اقتصاديّة وتجاريّة عملاقة على غرار شركة «طوطال» النفطيّة، أصبحت تتباهى بأنها تربي النحل فوق سطوح مبانيها.

فوق سطوح الفنادق والمطارات
تكاثرت بيوت النحل في كلّ حيّ من أحياء باريس، حتى أن بعض أشهر الفنادق الباريسية، أصبحت تتفاخر بتقديم العسل الطبيعي المنتج فوق سطوحها لزبائنها في فطور الصّباح، ومنها فندق «والدروف أستوريا»، بنيويورك الذي ركّز خلايا نحل فوق سطحه بها 360 ألف نحلة أنتجت العام الماضي 300 كيلوغرام من العسل.

وفوق سطوح مطار «رواسي شارل ديغول»، وحتى في حدائق مقر رئاسة الحكومة «المعروف باسم:ماتينيون» أصبحت بها خلايا نحل تطنطن، وتطوع مربّون لهذا النحل من العاملين في البرلمان للعناية به والسّهر عليه، وبلغ الإنتاج أكثر من 250 كلغ سنوياً.

هدايا
تمّ تركيز خلايا نحل فوق برج «مونبرناس» الذي يعدّ معلماً سياحياً ذائع الصيت بطوله «210 أمتار» وطوابقه الـ53، والنحل فوق سطح هذه الناطحة للسّحاب يتغذى من حدائق قريبة، وكذلك من «مقبرة مونبرناس» المكسوّة كلها بالأشجار والأزهار، ويرقد فيها مشاهير كثيرون، بلديّة الدّائرة الرّابعة في باريس، والتي تربى العسل فوق سطوحها، تقدّم لكل عروس وعريس يعقدان قرانهما، علبة أو قارورة عسل هديّة لهما؛ حتى تكون حياتهما حلوة، كما يوزّع الباقي على ساكني الحيّ هديّة من البلديّة لهم.

الكنز المخفيّ
«الدائرة السّادسة» في الحيّ اللاتينيّ الذي درس وأقام فيه طه حسين وسهيل إدريس وتوفيق الحكيم، وغيرهم كثر، وعلى بعد أمتار قليلة من جامعة «السّوربون» تقع حديقة «اللّوكسبمورغ»، في هذه الحديقة، يوجد ما سمّاه البعض «الكنز المخفي لباريس»، وهو أكثر من مليون نحلة تنتج أجود أنواع العسل وأغلاها، وفي كل فصل خريف، تنتظم سوق في الحديقة لبيع منتجاتها من العسل البيولوجي الطبيعي عالي الجودة، ويقام بها مهرجان العسل في شهر سبتمبر.

دار الأوبرا
مبنى «دار الأوبرا»، التي تقدّم به أرقى العروض الفنية وعروض الباليه، لا أحد يخطر على باله أنّ فوق سطح هذه البناية أقدم خلايا النحل في باريس، فقد تم الترخيص رسمياً لتربيتها في عام 1980، واليوم بها عشر خلايا تضمّ نصف مليون نحلة، تنتج عسلاً جيّداً، ثمنه أغلى خمس مرّات من العسل التقليدي.

على سطوح «القصر الكبير»، قرب شارع «الشانزليزيه»، تتم تربية خلايا عديدة للنخل، وكلّ خلية بها 50 ألف نحلة، وتنتج الخليّة الواحدة معدل 30 كلغ من العسل الفاخر عالي الجودة، ويطير النحل كلّ يوم لجمع حبوب اللّقاح من مناطق مختلفة من المدينة ويرتع في حدائق «التويليري» المعروفة!

موضة
الكثير من الباريسيّين ومن سكّانها والمقيمين فيها، أصبحوا من هواة تربيّة النحل في شرفات شققهم أو حدائق فيلاتهم أو فوق سطوحها، وهذا يخوّل لهم إنتاج عسل طبيعي، واللافت أن النّساء الباريسيّات يقبلن على تربية النحل، ويتلقين الدروس في هذا المجال.

شهادات
«جاكلين» وهي باريسيّة أباً عن جد، تربّي النحل فوق سطح بيتها منذ خمسة أعوام، تقول: «كنت دائماً أحلم بأن تكون لي خلية نحل في بيتي، وقد حققت حلمي، وأنا في الخمسين، بعد أن تلقيت تكويناً مختصّا في مدرسة «اللوكسمبورغ» ولي 3 خلايا فوق سطح بيتي، وأنتجت هذا العام 80 كيلوغراماً، من أجود أنواع العسل الطبيعي.

أمّا «ناتالي»، فإنها إلى جانب تربيتها للنحل، فإنها تنظم في بيتها دروساً تطبيقيّة للباريسيين والباريسيات، وحتى للسياح في كيفية تربية النحل.

هناك نصيحة تقول: «إذا كنت متعباً أو متوتراً أو مرهقاً لا تقترب من النحل، لأنه يحس بذلك، لا تكن متعطراً أو مستعملاً؛ فالنحل حساس للروائح».

مدينة الشّهد
قال الروائي والشاعر الفرنسي فيكتور هيغو عن باريس: «عاصمة الكون وبقية الدنيا ضواحيها»، ولكنها اليوم، وإلى جانب كل ذلك هي مدينة الشّهد!
ولأنّ باريس تقطر شهداً، فليس غريباً أن يختارها أشهر العرسان في العالم لقضاء شهر العسل!

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد