2014/04/28
33-TRIAL-لو قدر لهذه المصالحة أن تتم فستكون المرحلة الثالثة من بناء السلطة
الوطنية الفلسطينية التي تبلغ عامها العشرين هذا الصيف حين وطأت قدما ياسر
عرفات أرض فلسطين في تموز 1994 في تلك اللحظة التاريخية - وانتبهوا جيداً
لكلمة "لو" بالبنط العريض.لقد شكل وصول ياسر عرفات في ذلك الصيف عام 1994 وتشكل أول حكومة فلسطينية وإدارتها لشؤون حياة الناس حجر الأساس في تطوير الكيانية الفلسطينية.
صحيح أن إسرائيل كانت تفكر في أن هذه الحكومة ليست أكثر من مجلس بلدي لكن عرفات كان يراها حكومة لا تقل عن أي حكومة في العالم، كان مثل مايكل إنجلو حين رسم لوحته الشهيرة عن الخلق في صحن فناء كاتدرائية بطرس، قال وقتها البابا الذي طلب منه أن يرسم اللوحة: كنت أفكر في لوحة وكان يفكر في معجزة، كان عرفات يفكر في المعجزة الفلسطينية، كانت الدولة هي تلك المعجزة المنتظرة.
رغم ذلك فإن المعجزة لم تكتمل، لكن تلك السلطة لم تقبل أن تكون مجرد مجلس بلدي بل صارت أقرب شيء للدولة دون أن تكونه.
المعضلة الأهم التي عانت منها تلك السلطة كانت في غياب شرعية تمثيلها. نعم، فقد قاطعت كل التنظيمات الفلسطينية الكبرى عدا "فتح" صاحبة المشروع، هذه السلطة وناصبتها العداء، وبقليل من مراجعة ونقد الذات يمكن أن تعترف هذه التنظيمات أنها أرادت أن تنتفع من مكاسب السلطة دون أن تتحمل وزرها، وفي كل الأحوال فقد عانت تلك السلطة من أن التنظيمات الكبرى قاطعت مؤسساتها التشريعية والتنفيذية لا سيما على صعيد الوزارات، بجانب النقاش الضبابي حول صلاحية الاتفاق السياسي الذي جاء بها ليكون إطاراً لبناء كيان سياسي مستقل وليس تابعاً.
وجاءت المرحلة الثانية من بناء السلطة على حساب هذه الشرعية أو هي تجسيد لها وترجمة لأزمتها، فقد قبلت أخيراً جميع الفصائل والتنظيمات باستثناء "الجهاد الإسلامي" التنافس على مقاعد الهيئة التشريعية والتمثيلية للسلطة في انتخابات عام 2006، خاصة ألد أعداء الاتفاق السياسي الذي شكل شهادة ميلاد السلطة، بل إن هؤلاء الأعداء تناسوا كل نقدهم للاتفاق من أجل قطف ثمار الشجرة التي بات واضحاً أنها ليست مشروعاً طارئاً ونظاماً مفروضاً بالقوة، وهي لم تؤسس من أجل أن تزول، بل إنها صارت ثابتا من ثوابت النظام السياسي الفلسطيني.
ووجدت السلطة نفسها "كعكة" يتم حمل السلاح من أجل اقتسامها، وحدث مباشرة بعد عام من الانتخابات التشريعية الثانية الانقسام، وصارت السلطة سلطتين والحكومة اثنتين والشرطة شرطتين، وبطريقة عجيبة تم الحفاظ على هذا الانقسام دون طلاق كامل، وتدريجياً حدثت عمليات التكييف والتعايش وبعد ذلك إدارة الانقسام بالتراضي رغم أنف الناطقين الإعلاميين وردح بعض الخطباء والساسة.
خبرات التاريخ مليئة بتلك الشواهد التي تجعل الحروب الأهلية مراحل فاصلة في عمليات تطوير الدول وتحقيق ثبوتها، خاصة في الأقاليم التي لم تشهد حالات "دولانية" قبل ذلك، لذا فلا تتوفر لدي نخبها السياسية خبرات وذكريات مؤسساتية قادرة على تطوير فهم مشترك لكنه الحكم.
بالطبع في حالتنا كان من المعيب أن يحدث هذا في ظل وقوعنا تحت الاحتلال، لكنه وقع ووقع بقسوة أكبر، وأياً كان الحال، وأياً كانت وجهات نظرنا، فإن ما تم من انقسام كان مرحلة ربما هامة وأساسية في الوصول إلى المرحلة الثالثة من مراحل بناء السلطة وتطوير "دولانيتها"، مرحلة الوحدة والمصالحة.
بهذا، فإن توقيع اتفاق المصالحة في غزة قبل أيام في حال تم تنفيذه يمكن له أن يشكل الرافعة الثالثة في تاريخ تطوير الكيانية الفلسطينية، يقول قائل: جرب الناس "فتح" وجرب الناس " حماس " والآن سيجربون "فتح" و"حماس" سوية، على اعتبار أن "طرفي الانقسام" (كلمة اليسار المفضلة) هما طرفا المصالحة، ألم تتغيب "الشعبية" و"الجهاد" عن التوقيع! ربما من أجل ذلك. عموماً، فإن مرحلة التكوين الوحدوي تلك ربما الأهم في تاريخ السلطة لو قدر لها أن تتم حيث إن اتفاق أطراف النظام السياسي على مكوناته ووظائفه ومستقبله يشكل دعامة أساسية في تطويره.
الواضح أن ثمة اتفاقا ولو شكليا على ذلك - ما لم يتم نقضه فجأة، بيد أن الأهم في مثل هذا الاتفاق إذا أفضى إلى اتفاق أشمل حول أهداف النظام السياسي وأدوات نضاله وحل المشكلات العالقة حول مرحلة البناء ومرحلة التحرر ومفهوم سلاح المقاومة وسلاح السلطة، والفرق بين المهنية وبين الولاء الحزبي، أسئلة كثيرة من شأنها أن تهدد استقرار واستمرار عملية الوحدة.
لاحظوا أن ليس في كل ما أقول أحكام معيارية حول جودة ما سيكون بعد المصالحة، بقدر ما هو تقديم لواقع الحال ولما يمكن للخبرات السابقة أن تخبرنا عنه، حيث إن المصالحة بكل ما تم الاتفاق عليه قد تأتي على حساب الكثير من الحقوق وربما الألم، ولكن حتى تجاوز هذا الألم والتنازل عن بعض تلك الحقوق، هذا بحد ذاته جزء أساسي من عمليات البناء الوطني، فالجسد لا تندمل جروحه بسرعة، ويمكن لك أن تسير وأنت تنزف.
لكنني ممن ما زلوا يقولون، إن أمراء الانقسام كثر، وإن مصالحهم في المحصلة ستتعارض مع المصالحة التي سيعملون جاهدين وبهدوء وبدون إثارة جلبة وضجيج على إفشالها.
لقد خلقت المرحلة الماضية مجموعة من هؤلاء الأمراء الذين أثروا مادياً من وراء التغني بالانقسام والحفاظ على الصمود في وجه رياحه العاتية – التي هي من قربتهم الشيطانية، كما أثروا اجتماعياً حيث صاروا أصحاب نفوذ ومواقع، وكذلك سياسياً حيث خلق الانقسام لهم مداخل للتأثير وللوصول إلى مواقع لم تكن موجودة لولا وجود أكثر من مؤسسة وجهاز بفعل حاجة النظام المنقسم لإعادة استنساخ نفسه كما هو الحال، وأياً يكون الحال، فإن أمراء الانقسام هؤلاء يجب أن يتم التعاطي معهم بكثير من الحذر وبقليل من الرحمة.
وعليه، نحن من نحدد إذا ما كان اتفاق المصالحة سيكون رافعة جديدة في عمر السلطة التي تبلغ عامها العشرين في طريق تحولها لدولة أم مجرد فقاعة إعلامية وابتسامات زائدة. 215
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية