بعد خمس سنوات على اندلاع ثورة الياسمين في تونس التي شكلت بداية مرحلة من تسونامي عربي لم يهدأ بعد، يبدو أن المشهد العربي وكأنه لا يزال يصيغ مقدمة الخطاب.
بين تفاؤل البعض بربيع عربي، أو ربيع عربي بشتاء إسلامي وتشاؤم البعض الآخر، الذي كان يرى بأن هذا الاضطراب الكبير سينتهي بخريف كئيب يؤدي إلى نجاح ما يعرف بسايكس بيكو القرن الحادي والعشرين بمعنى تمزيق الممزق العربي، بين هذا وذاك تحتاج اليوم إلى قراءات عربية معمّقة لمجريات هذه الأحداث التاريخية الكبرى، خصوصاً وأن مراكز الدراسات الإسرائيلية لا تكف عن البحث والاستنتاج.
حدثان كبيران وقعا خلال العام الماضي، الأول، توصل إيران لاتفاق مع الدول الكبرى بشأن ملفها النووي، وأدى إلى تحرير الاقتصاد والسياسة الإيرانية من قبضة العزلة والحصار الذي تعرضت له لسنوات طويلة. أما الحدث الثاني فهو التدخل الروسي القوي والحاسم في المنطقة من خلال الدولة السورية، بما ينطوي عليه من تداعيات واسعة على الصعيدين السوري الداخلي لمصلحة النظام، وعلى الصعيد الإقليمي من خلال تحالف معلن ومتين مع إيران.
قبل هذين الحدثين، كان مخطط سايكس بيكو الجديد قد تلقى ضربة شديدة القوة والتأثير من خلال التغيير الذي شهدته الساحة المصرية بعد الثورة المصرية الثانية، التي شكلت السد الأول العالي في وجه تقدم مخططات التقسيم، وشكلت بداية سقوط المشروع السياسي الإسلامي الذي جعل البعض لبعض الوقت يتفاءل بربيع أو شتاء إسلامي.
في الحقيقة لم يكن ممكناً الفصل بين المشروعين التقسيمي والإسلامي، ذلك أن القوى الدافعة لفرض المشروع التقسيمي سعت لاستغلال دور ومكانة جماعات الإسلام السياسي هذا إذا أحسنا النوايا.
المصلحة الإسرائيلية كانت واضحة، ليس فقط عبر التصريح بها من قبل المصادر الإسرائيلية وإنما، أيضاً، عبر الوقائع الجديدة التي كانت تنتظرها إسرائيل والقسم الأهم منها، ما يتعلق بضمان أمنها لعشرات السنين، وحتى وقت قريب، ارتضت إسرائيل لنفسها أن تظل بعيدة عن المشاركة الفعلية المباشرة في التحالفات التي صاغتها الولايات المتحدة تحت عناوين مختلفة للتعامل مع حالات الصراع الجاري في المنطقة، إذ كان عليها أن تنتظر حصاداً وفيراً ومجزياً دون أن تقدم أي ثمن.
هذا الوضع جعل إسرائيل تتغول على حقوق الفلسطينيين، وتتحمل المسؤولية عن إفشال عملية السلام، وما ينجم عن ذلك من عدم رضا حلفائها، وشكل لها حافزاً قوياً للمضي قدماً في مخططاتها التوسعية والاستيطانية في القدس والضفة الغربية. في المقابل شعر الفلسطينيون بالمرارة الشديدة إزاء تراجع مكانة القضية الفلسطينية عربياً وإقليمياً ودولياً، وتراجع إمكانية تحقيق رؤية الدولتين.
الحدثان الإيراني والروسي أديا إلى قلب الطاولة ونحو تشييد سد عال آخر في القسم الشرقي من الوطن العربي. خلال هذه الفترة، اتضح للكل أن الولايات المتحدة وحلفاءها كانوا على استعداد للتخلي عن حلفائهم، الجدد والقدامى، من أجل تحقيق مصالحهم وإنجاح مخططاتهم التقسيمية، التي ستؤدي إلى تعميق الهيمنة والسيطرة على ثروات وشعوب هذه المنطقة.
ولقد أدركت معظم القوى والأنظمة السياسية العربية، خصوصاً تلك التي تنزف دماؤها أن التحالف الذي أنشأته الولايات المتحدة بهدف التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية، وان هذه القوى لم تكن جادة في العمل، وانها تسعى إلى استنزاف كافة الأطراف، وانها لم تكن صادقة في حربها ضد تنظيم الدولة الذي حقق تقدماً وتوسعاً كبيراً في سورية والعراق.
ظهر هذا الأمر على نحو شديد الوضوح، بعد التدخل العسكري الإيراني والروسي القوي في سورية، والذي يتخذ طابعاً جاداً جداً وحاسماً لصالح الحفاظ على الدولة السورية، ومنع انهيارها أو تقسيمها.
ثمة أبعاد استراتيجية واسعة وشديدة التأثير في التوازنات التي يخضع أو يتعرض لها الإقليم، حيث أربك التدخل الروسي مخططات وطموحات وأطماع كافة الأطراف ذات العلاقة من تركيا إلى إسرائيل، إلى الولايات المتحدة، وحتى الدول العربية التي اختارت طريق العداء لنظام بشار الأسد، ولم تتوقف عن تقديم كل أشكال الدعم المالي والعسكري والسياسي للمعارضة المسلحة وغير المسلحة. تأثير هذا التدخل لن يتوقف عند حدود سورية بل سيمتد مبدئياً إلى العراق الذي تحظى فيه إيران بنفوذ يضاهي إن لم يكن يتجاوز النفوذ الأميركي، ما سيؤدي الى الأرجح إلى حماية وحدة العراق حتى لو أن الأكراد اتجهوا نحو الانفصال وإعلان دولتهم القومية.
إذا كانت مبدئياً هذه بعض تداعيات ونتائج تدخل التحالف الروسي الإيراني فإن هذه النتائج ت فتح الطريق واسعاً أمام تفعيل الدور الروسي وتراجع الدور الأميركي، وبما يؤكد انتهاء زمن النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة لصالح نظام عالمي متعدد الأقطاب، وعودة الحرب الباردة.
إذا كان هذا من شأنه أن يشكل إزعاجاً وإرباكاً لكل من تركيا وإسرائيل كدول إقليمية، فإننا لا نفهم لماذا يشكل استفزازاً وغضباً لبعض الدول العربية، إلى الحد الذي يجعلها تفكر في إرسال قوات برية للتدخل في سورية، بدون أن نمضي في التوقعات بشأن إمكانية التدخل البري الذي يحول دونه موقف روسي يعلن أن أي اعتداء على سورية هو اعتداء على روسيا، فإن هذه التطورات، يفترض أن تكون محل ترحيب وتقدير من قبل الفلسطينيين، بما أنها محل استفزاز وجنون من قبل إسرائيل، التي لن تحظ بالأمن والاستقرار يوماً طالماً بقيت على سياساتها العنصرية التوسعية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية