لا أعرف على وجه الدقة كيف سيتصرف جنود الاحتلال مع أيّ فلسطيني، وليس لديّ أية صورة حتى متخيلة عن تصرفهم مع أية فلسطينية بعد إقرار القانون المقترح «للتعرية».
لكن الأمر المؤكد قبل هذا وذاك أن العوائق أمام إقرار القانون منعدمة، والطريق أكثر من ممهّدة، و»الرادع» الوحيد الذي يمكن أن يمنع إقراره هو الموقف الدولي الحازم وليس أقل من ذلك في مطلق الأحوال.
كما أن الأمر المؤكد، أيضاً، أن جنود الاحتلال سيعمدون إلى تطبيق هذا «القانون» دون إقراره أو إذا تعذّر إقراره، وذلك من باب «الإجراءات الاستثنائية» ومن باب «الحق» في مثل هذه الإجراءات عند توفر ما «يكفي» من الشبهات.
الواقع أن من المستحيل «إثارة» القانون لولا أن دوائر بعينها قد قدمت ما «يستوجب» القيام بهذه الإجراءات، ولولا أن دوائر أخرى «نصحت» بأن يتم ذلك وفق مسار «قانوني»، حتى يتحول تصرف جنود الاحتلال في هذه الحالة إلى تصرف وفق القانون أو لكي يظل جيش الاحتلال جيشاً أخلاقياً يعمل في إطار (منظومة قوانين الدولة)...!! أي أن سلوك جيش الاحتلال في قادم الأيام سيعمد إلى عشرات «الإجراءات» الاستثنائية بانتظار أن تتحول هذه الإجراءات إلى إجراءات «قانونية».
في السنوات الأخيرة، أقر سيل من القوانين العنصرية التي تؤكد انحداراً خطيراً في مفاهيم «الدولة» للقانون، وفي استخدام (الدولة) للقوانين بهدف تعميق الفصل العنصري وترسيخ التمييز العنصري في عملية تهويد قانونية لا تقلّ شراسة عن التهويد الذي يجري على مستوى الأرض والتهويد الذي يطال هُويّة الإنسان وهُويّة المكان في آن معاً.
وفي الوقت الذي يجري الانتباه بالقدر المعقول لكل الممارسات التي تتعلق بهدم البيوت ومصادرة الأرض والاستيطان والكثير من الممارسات الاحتلالية، إلاّ أن انتباه المجتمع الدولي الرسمي ما زال ضعيفاً للغاية إزاء التحوّلات العميقة التي تجري في إسرائيل على مستوى الانحدار التام والسافر نحو الدولة العنصرية.
أذكر وأنا في بداية العشرينيات من عمري أنني بصحبة مجموعة كبيرة من اليساريين الإيطاليين خرجنا نتظاهر ضد نظام جنوب إفريقيا العنصري بعد مشاهدتنا لأحد التحقيقات المصوّرة التي بثّها التلفزيون الإيطالي عن معاملة قوات الأمن العنصرية للسكان السود.
كانت المشاهد مؤلمة بصورة خاصة، وكان الأمر يتعلق بسيارات القمامة، فقد كان على العامل الأسود أن يتناول براميل القمامة ويلقيها في الشاحنة وهو يركض طوال الوقت، لأن الشاحنة لم تكن تتوقف أبداً، وكان على ذلك العامل المسكين أن يلاحق السيارة وهو يكاد يموت من شدّة اللهاث وراءها.
عشرات من تلك التقارير والتحقيقات الصحافية الحقيقية قلبت العالم رأساً على عقب.
تحوّل نظام جنوب إفريقيا في غضون عدة سنوات فقط إلى «مكرهة» لا تثير لدى مئات ملايين من العالم سوى الاشمئزاز وتحوّل النظام العنصري إلى نموذج صارخ للعنصرية.
هناك من يقلّل من أهمية هذا النوع من الكفاح في حال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهناك من يحاول تبهيت هذه الأهمية وتصوير هذا الصراع وكأنه صراع لا يحتمل «رفاهية» هذه الأشكال الكفاحية.
لو دققنا في الأمر جيداً، ولو حاولنا تحييد التفكير السياسي عن الأفكار الغريزية والانتقامية والتي هي مشاعر لا يمكن كبتها دائماً... لكن لو أتيحت لنا فرصة التفكير «بالرأس البارد» في خضّم «الجلبة» السياسية التي تسيطر علينا عقب كل جريمة ترتكبها قوات الاحتلال .... لو توفر لنا مثل هذا الهدوء، ومثل هذه الفسحة من التأمُّل لتوصّلنا بسهولة إلى أن مثل هذه الأشكال الكفاحية هي الأكثر إيذاء بالاحتلال، بل والأكثر فتكاً بكل منظوماته وقوانينه وإجراءاته. وأكثر ما يجب عمله هنا هو التوثيق.
لا أقصد طبعاً التوثيق القائم على الصحف، أو التوثيق الذي تقوم به بعض الجهات الإعلامية الداخلية أو الدولية للمواجهات على أهميتها، وإنما أقصد التوثيق القائم على عمل منهجي منظم تقوم به جهات متخصصة لديها خطط وبرامج مدروسة وحقيقية.
المؤلم حقاً هو أن العالم يشاهد بهذا القدر أو ذاك الممارسات الإسرائيلية لكن المجتمع الإسرائيلي يكاد لا يعرف شيئاً عن ممارسات قوات الاحتلال.
وعندما يشاهد الجمهور الإسرائيلي بعض هذه الممارسات على شاشات الفضائيات الدولية يكاد لا يصدّق ما يرى، بل ويعتبر أن هذه المشاهدات جزء من الحملة المركّزة على إسرائيل وجزء من الحرب الموجّهة ضدّها.
وبالعودة إلى أن قانون «التعرية» وقوانين أخرى ستأتي لاحقاً، وقوانين جديدة فيها من الغرائب والعجائب ما لم نقوَ على تصوّرها فإن التوثيق الممنهج للممارسات الإسرائيلية له فعل السحر في قلب الدنيا على رأس الاحتلال، وخصوصاً إذا تمكنا من إيصال هذا التوثيق إلى الجمهور الإسرائيلي، ونحن سنظل مقصّرين بحقّهم وبحقّنا إذا لم نتمكن من ذلك.
فعلى الرغم من كل ما يجري من تحوّلات سياسية واجتماعية عميقة سلبية في إسرائيل، فإن جمهوراً متعطشاً للمعرفة ما زال موجوداً، وجمهوراً ليس لديه استعداد للتخلي عن القيم الديمقراطية ما زال حيّاً يُرزق.
تقترب الأيام التي سنلتقي بها وجهاً لوجه مع جمهور إسرائيلي ليس مستعداً للذهاب بعيداً أكثر مما وصلت إليه الأمور في المتاهة الإسرائيلية.
وأخشى ما أخشاه هو أن يكون لدينا متاهتنا، أيضاً، دون أن ندري أو ربما نعتقد، أيضاً، بألا وجود لمتاهةٍ لدينا أصلاً، بالرغم من قناعتي باختلاف حالة المتاهة وأسبابها ودوافعها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد