شرّق المحللون والسياسيون وغرّبوا، واختلفت توقعاتهم بالنسبة لما سيتضمنه خطاب الرئيس محمود عباس ، قبل إلقائه يوم أمس، ولم يكن لهذا الخلاف والاختلاف سوى أن يعكس حالة الاضطراب التي تعاني منها النخبة التي يفترض أنها تخاطب الرأي العام.
كان من الضروري قراءة ما قبل الخطاب، حتى نستنتج ما يمكن أن يرد فيه، وما قبل الخطاب، لم يكن ليسمح بتوقعات من نوع أن يعلن الرئيس عن نائب له، ولا أن يعلن عن حل السلطة، أو عن وقف التنسيق الأمني، وكل ذلك ورد في توقعات المحللين، ولكن شيئاً من هذا لم يرد في خطاب الرئيس.
ربما نجد العذر لمن يعملون ضمن الفئة التي تتهم بأنها صانعة الرأي العام، في مجتمع لا يسمع فيه صناع القرار سوى أصواتهم وهواتفهم الذاتية، فقراءة المواقف على نحو صحيح، والخروج باستنتاجات، واقعية أو قريبة من الواقع تتطلب أن يفرج صناع القرار عن المعلومات، وأن يتوخوا الصراحة والوضوح في مخاطبة مواطنيهم، لكن الأمر في فلسطين على غير هذا النحو.
إذن، في الغالب، فإن المحللين، هم أقرب إلى من يقرأ الفنجان أو يعتمد على قراءة الأبراج، من فلكيين تكثر أسماؤهم عاماً بعد آخر تزداد الاختلافات في توقعاتهم، والأكثر جدارة بين هؤلاء المحللين من يملك تجربة ذاتية طويلة تمكنه من تقديم تحليلات واستنتاجات واقعية أو قريبة من الواقع.
الأهم الذي ينطوي عليه خطاب الرئيس يعتمد على أهمية المكان الذي يلقي منه رسائله، ومن المناسبة التي تعني مليارات المسيحيين في كافة أنحاء العالم، أراد الرئيس أن يرسل للعالم رسالة سلام، تعبر عن هوية الشعب الفلسطيني الذي يرغب بتحقيق السلام، ويتمسك به، وهو صاحب مصلحة حقيقية في تحقيقه، مقابل الرسالة الإسرائيلية اليومية التي تصدر عن دولة إسرائيل ومجتمعها.
إسرائيل ترفض السلام، وهي المسؤولة عن تدمير عملية السلام، لتحقيق أطماعها التوسعية، وهي تمارس كل ما يخطر ببال من أنواع وأشكال الجريمة لوأد السلام، وقمع شعب السلام، بمن في ذلك المسيحيون الفلسطينيون، الذين يتعرضون وتتعرض مقدساتهم لتحريض عنصري ديني، ويتعرضون لاتهامات شتى.
من شعب السلام الكل يدفع الثمن، فالكنائس تحرق، وتتعرض للتدنيس، كما المساجد، وبيوت العبادة، والكل يتعرض للقتل والإعدام الميداني، والإصابة والاعتقال، والكل معرّض لأن يفقد بيته، ومصدر رزقه، أو يطرد من أرضه. اراد الرئيس أن يقدم للعالم المشهد الفلسطيني على حقيقته، مقابل المشهد الإسرائيلي الذي يقدم نفسه يومياً على حقيقته. قبل يوم واحد من خطاب الرئيس كان ركاب الطائرة المتجهة من أثينا إلى مطار اللد، قد أصروا على منع مواطنين اثنين إسرائيليين هما فلسطينيان، من الصعود إلى الطائرة، ما يعني أن المجتمع وليس فقط الدولة، قد استشرت فيه العنصرية.
رسالة الرئيس تنطوي على مناشدة للمجتمع الدولي لأن يولي اهتماماً بالقضية الفلسطينية صاحبة أكثر عدد من القرارات التي أصدرتها مؤسسات الأمم المتحدة، بأن تحظى بما حظيت به إيران وملفها النووي، وما حظيت به اليمن أو ليبيا أو سورية.
مطلوب صيغة دولية جديدة غير صيغة الرباعية الدولية التي انتهت صلاحيتها وغير صيغة الاحتكار الأميركي، بعد أن انسحبت منه الإدارة الأميركية، صيغة على غرار خمسة زائد واحد، التي أنتجت اتفاقاً رفضته إسرائيل التي تواظب على رفض أية قرارات، حتى لو أجمع عليها العالم.
ولأن العالم يجمع على أهمية وجود ودور السلطة، رغم كل ما يعتري هذا الدور من سلبيات فيما يتعلق بالالتزام بشروط أوسلو التي لم تلتزم بها إسرائيل، فقد أكد الرئيس تمسك الفلسطينيين بالسلطة الوطنية، ووضع حداً للجدل بشأن احتمالات حلها من قبل الفلسطينيين. هذه الرسالة، كأنها تحذر المجتمع الدولي من أن دوام وجود السلطة، أو تعرضها لأزمة وجودية، لن يكون سببه الفلسطينيون وإنما سببه الاحتلال الإسرائيلي، الذي يتعامل بخبث شديد وسوء نية تجاه السلطة، السلطة مقبولة لإسرائيل إذا بقيت فندق خمس نجوم، تخفف عن الاحتلال أعباء كبيرة تجاه الفلسطينيين لكن لسان حالهم أي الإسرائيليين، يقول إن السلطة غير مرغوب في وجودها إن هي غيرت من شروط بقائها ودورها.
أما الرسالة الأخرى، فقد أراد الرئيس أن يعلن على الملأ اصطفاف فلسطين إلى جانب السعودية، وهو بذلك وعملياً يعبر بالأساس عن مواقف فتح وحركة حماس التي سعت لتحسين علاقتها بالسعودية، رغم أنها تطمح في أن لا يكون هذا السعي سبباً في تعطيل سعيها لاستعادة العلاقة مع إيران.
على كل حال هذا الموقف، قد يخضع للنقاش حين يتعلق الأمر ببقية الفصائل، وربما أيضاً على مستوى النخب السياسية، ذلك أن السياسة الفلسطينية الرسمية دأبت على الالتزام بعدم الدخول في سياسة المحاور العربية والإقليمية.
عدا عن ذلك لم يتضمن الخطاب أية رسائل فلسطينية داخلية ذات قيمة غير معلومة، فالأمر بالنسبة للمصالحة على حاله، وكذلك بالنسبة لأزمة معبر رفح ، حيث لا جديد يمكن الاعتداد به على هذا الصعيد، يمكن أن يفتح طاقة أمل بإمكانية حل الأزمتين.
وبصراحة، الإعلان عن الخطاب قبل وقوعه، كان قد أشاع حالة نفسية جيدة لدى الفلسطينيين الذين اعتقدوا أنه سيفجر بعض القنابل المهمة التي ينتظرونها على الصعيدين الداخلي، والخاص بالعلاقة مع إسرائيل. غير أن اللهجة التي تحدث من خلالها عن الاستيطان والمستوطنين ورفض التنازل عن أي متر من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 يشير إلى يأس من إمكانية تحقيق السلام، والعودة إلى المربع الأول قبل أوسلو.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد