واصلت أسعار النفط الخام هبوطها الحاد خلال الشهور الماضية إلي ادني مستوياتها, وبأرقام قياسية, ليلقي بتبعاته على الاقتصاد العالمي بشكل عام, واقتصادات الدول المنتجة والمصدرة للنفط بشكل خاص, وأحدث إرباك في أسواق النفط العالمية والتي تشهد نزيف مستمر من عام ونصف العام تقريباً.
وما تزال أسعار خام برنت تتجه إلي الأسفل, حيث وصلت هذا الشهر إلي أدنى مستوياتها منذ11 عام بعد أن حذرت وكالة الطاقة الدولية من أن فائض الإمدادات العالمية قد يزداد العام القادم, وبالرغم من بعض التحسن الغير مجدى بسبب التوقعات المتشائمة, فقد بلغ سعر برميل برنت 37.77 دولار للبرميل يوم أمس الثلاثاء. وهيمنت الحيرة على المتعاملين والمحللين على حد سواء بسبب انخفاض النفط منذ اجتماع منظمة الأوبك في الرابع من ديسمبر والذي فشل في خفض سقف الإنتاج.(الإبقاء على سقف الإنتاج) واعتبر موقع Mareket Watch أن الحدث الأبرز على الإطلاق الذي هز الأسواق في عام 2015 هو (الانهيار في أسعار النفط) الذي خيمت ظلاله على جميع جوانب الاقتصاد في العالم, وقال : "إن كانت هناك جائزة لأهم حدث في العالم, ستكون من نصيب النفط الخام, موضحاً أن محركات الأسواق المالية تأثرت بأسعار النفط بصورة فاقت كل التوقعات".
لم تخلو التوقعات من التشاؤم حول مستقبل أسعار النفط الخام خلال العام المقبل 2016, فالأيام الماضية بدأت الدول المنتجة للنفط تضع موازناتها السنوية وتحدد أسعار النفط, فالأمر بدا واضحاً من خلال العديد من التصريحات بأن العام المقبل لن يكون أفضل بكثير من هذا العام الذي نودع آخر أيامه.
إذا تأملنا واقع أسواق النفط وأسعاره لهذا العام سنجد أن عدد من العوامل كان لها الأثر في تراجع أسعار النفط على مدار العام وهي كالآتي:
1- تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي :يمكن أن نطلق على عام 2015 بأنه عام (المفاجآت للاقتصاد العالمي والأسواق العالمية), فقد شهد هذا العام, تباطؤ ثاني أكبر اقتصاد في العالم(الاقتصاد الصيني) وما تبعه من هزات للأسواق العالمية, ثم تلى ذلك تراجع اليورو منذ بداية العام, ثم جاءت أزمة الديون اليونانية التي تسببت في أزمة اقتصادية وكادت أن تؤدي إلى خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي, وكان لها أثر كبير وبشكل مباشر على الأسواق العالمية.
2- أساسيات العرض والطلب: لم يتراجع المعروض طوال العام 2015, فقد أبقت الدول المنتجة في أوبك على سقف الإنتاج بحدود 31.57 مليون برميل يومياً للحفاظ على حصتها السوقية من المنتجين الجدد(النفط الصخري).
3- إمدادات النفط الإيراني وزيادة إنتاج النفط العراقي, فضلاً على ارتفاع الإنتاج الروسي من النفط الخام إلي قرابة 10.78 مليون برميل يومياً, كلها عوامل ستنعكس على أسواق النفط خلال العام المقبل.
4- ارتفاع إنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري: حيث تشهد الولايات المتحدة طفرة كبيرة في إنتاجها النفطي من النفط الصخري في الآونة الأخيرة لتبلغ معدل 4 مليون برميل يومياً, الأمر الذي أدى إلي انخفاض واردات الولايات المتحدة من منظمة الأوبك "opec"إلي النصف تقريباً لأول مرة منذ 30 عاماً.
5- المخزون التجاري العالمي: حيث تشير بيانات معهد البترول الأمريكي, إلي أن مخزونات النفط التجارية في الولايات المتحدة زادت بمقدار 4.9 مليون برميل في 15 أكتوبر لتصل إلي 465.96 مليون برميل مقابل توقعات سابقة بزيادة المخزون بمقدار 2.8مليون برميل.
6- دور المضاربة في أسعار النفط: تشير العديد من التحليلات إلي أن المضاربات يمكن أن تكون هي المسبب الرئيسي في الأزمة الحالية, حيث أدت التوقعات بشأن انخفاض الأسعار إلي تراجع اهتمام المضاربين والمستثمرين في العقود النفطية ومن ثم الخروج منها, الأمر الذي ضخم من مستويات التراجع خاصة مع قرار أوبك بعدم خفض الإنتاج.
7- ارتفاع قيمة الدولار: يشهد العالم في الفترة الأخيرة ارتفاع معدل صرف الدولار الأمريكي بالعملات المختلفة في العالم, وبما أن السلع التجارية في العالم, مثل النفط تسعر بالدولار, فان سعرها السوقي يتأثر أيضا بقيمة الدولار, وهناك علاقة عكسية بين قيمة الدولار وأسعار السلع التجارية التي تقيم بالدولار, فعندما ترتفع قيمة الدولار تصبح مثل هذه السلع منخفضة القيمة داخل الولايات المتحدة, مرتفعة القيمة بالنسبة لباقي دول العالم, ومع ارتفاع قيمة الدولار يتحول النفط إلي منتج مرتفع التكلفة بالنسبة للدول الأخرى خارج الولايات المتحدة, وهو ما يقلل الطلب العالمي عليه, وبالتالي تتزايد الضغوط على سعره نحو التراجع.
8- انخفاض تأثير المخاطر الجيوسياسية: فقد ظلت أسعار النفط مرتفعة لفترة طويلة بسبب تركيز المتعاملين في السوق على التأثير الكامن للمخاطر الجيوسياسية العالمية المحيطة بالسوق, وانه من المتوقع أن يترتب على تلك المخاطر, بصفة خاصة بالنسبة للدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وبالتحديد العراق وليبيا, التأثير سلباً على العرض العالمي من النفط ومن ثم استمرار ارتفاع الأسعار,غير انه بدا من الواضح أن حالة القلق من هذه المخاطر لم يكن لها مبرر عملي, حيث لم تتحول هذه المخاطر إلي واقع فعلي على الأرض يمكن أن يهدد تدفقات النفط من مناطق الإنتاج إلي أسواق المستهلكين, فالإنتاج لم يتأثر بالمخاطر الجيوسياسية .
*انعكاسات أسعار النفط على الدول المنتجة:
لم تكن الدول المنتجة للنفط بمعزل عن انعكاسات تراجع أسعار النفط, فقد ألقت خسائر أسعار النفط بظلالها على اقتصادات الدول المنتجة, وبطبيعة الحال كانت الدول المعتمدة على سعر برميل النفط ( الدول الريعية) هي الأكثر تأثراً , ولم يقتصر الأثر الناجم على هذه الدول بل على المنتجين بشكل عام وهنا نذكر بعض الدول:
* العراق: فالعراق أكثر الدول تأثراً بأسعار النفط والتي أوجدت عجزاً في موازنته العامة نحو 24 تريليون دينار عراقي, بما يعادل نحو 20.5 مليار دولار. ويعد العراق من بين الدول العربية الأقل استقراراً, بالإضافة إلي الأزمات الاقتصادية التي ورثتها الحكومة عن سابقاتها, هناك أزمة سياسية وأمنية, نتيجة الأوضاع غير المستقرة, والحرب مع تنظيم الدولة(داعش) وتردى في الأوضاع الاقتصادية والمالية نتيجة لتدني أسعار النفط وتأثيره على الموازنة والاستثمار.
* إيران: أما بالنسبة لإيران التي خرجت قريبا من بند العقوبات الاقتصادية الغربية بعد التوصل لاتفاق حول برنامجها النووي, لكنها قد تعود إلي الأسواق بزيادة نصف مليون برميل يومياً وهو ما يزيد من التخمة في المعروض في أسواق النفط العالمية, وهو ما سيحرم الخزينة من إيرادات إضافية.
*دول مجلس التعاون الخليجي:
يتفاوت التأثير الذي ألحقه تراجع أسعار النفط من دولة إلي أخرى داخل دول مجلس التعاون, فالسعودية مثلاً واجهت انعكاسات لتراجع أسعار النفط لكنها كانت قادرة على مواجهتها وذلك بسبب اقتصادها القوى, ورصيدها من الاحتياطي النقدي, كلها عوامل أسهمت في تمكين السعودية من مواجهة هذا التراجع في أسعار النفط, أما باقي الدول مثل الكويت فقد واجهت ضغوط على موازنتها المتوقع أن تسجل موازنتها للسنة المالية الحالية عجزاً بقيمة 20مليار دولار بعد ضغط النفقات وتأجيل بعض المشاريع, أما قطر فقد كان العجز في موازنتها حوالي 12.7 مليار دولار لعام 2016.
وتوقعت وكالة "فيتش للتصنيف الائتماني"أن يصل إجمالي العجز في موازنات دول مجلس التعاون الخليجي في الفترة من 2016-2015 إلي 265 مليار دولار.
وهناك العديد من الدول غير العربية في منظمة أوبك أيضا تأثرت موازناتها بتراجع أسعار النفط, نذكر منها فنزويلا وهي قد تكون من أكثر الدول تأثراً, ونيجيريا وغيرها من الدول. وهنا لابد من الإشارة إلي أن الدول النفطية بشكل عام ودول مجلس التعاون بشكل خاص بحاجة إلي تنويع مصادر دخلها وعدم الاعتماد على إيرادات النفط بشكل أساسي, للتمكن من مواجهة التقلبات الحادة في أسواق وأسعار النفط.
* مستقبل أسعار النفط:
لا يبدو أن نهاية أزمة أسعار النفط ستكون قريبة, فما زالت العوامل التي أدت إلي هذا الانهيار الكبير في الأسعار قائمة, ومعركة (أوبك) ومنافسيها من المنتجين الجدد لم تحسم بعد, بل يمكن القول أنها في طريقا إلي التعقيد, والاقتصاد العالمي مازال غير مستقر إلي الآن, وهذه بعض العقبات التي تواجه أسعار النفط.
وهنا نشير إلى أن سيناريو العام القادم 2016 لن يحمل الكثير من التفاؤل للمراهنين على ارتفاع أسعار النفط, وقد يكون النصف الأول من العام 2016 هو الأسوأ بالنسبة للأسواق والمنتجين, فقد تشهد هذه المرحلة زيادة في المعروض النفطي, من خلال استعداد بعض المنتجين لزيادة إنتاجهم اليومي مثل (العراق وغيران), وزيادة التدفق الذي بدأت به الولايات المتحدة بعد اتخاذ مجلس النواب الأمريكي أجراء جديداً لرفع الحظر المفروض منذ 40 عاماً على تصديرها للنفط الخام وكان هذا الحظر فرض في عام 1975 لحماية مخزون الطاقة الأمريكي على أثر حظر النفط العربي الذي هز اقتصاد الولايات المتحدة. وهي بطبيعة الحال ستزيد من المعروض النفطي وبالتالي سينعكس ذلك على أسعار النفط عالمياً.
وبالرغم من تعدد التوقعات والسيناريوهات حول أسواق وأسعار النفط, سيبقى للعوامل الجيوسياسية والصراعات, وتقلبات السوق دوراً أساسياً في تحديد اتجاه الأسعار,وهو ما يجعل من الصعب التكهن والتنبؤ بأسعار النفط مهمة صعبة خصوصاً مع الأحداث التي تعصف بالعالم عموماً وبمنطقة الشرق الأوسط خصوصاً في ظل الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية المحيطة بالاقتصاد العالمي, وهو ما قد يفرض قضايا جديدة تغير مسار الأحداث بشكل أو بآخر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية