على مدار تسعين يوما، ومنذ اندلاع الهبّة الشعبية الفلسطينية لازالت سلطات الاحتلال الاسرائيلي تحتجز 56 جثمانا للشهداء الفلسطينيين، ولتبقى بيوت عائلات الشهداء مفتوحة للحزن الطويل، الترقب، العيش المستمر مع حالة الفجع، يتجمد الوقت وتنقلب المواعيد في مسافة الانتظار.

اقتربنا من العام الجديد، ولازالت جثامين الشهداء في ثلاجات معهد ابو كبير الاسرائيلي، تقبع صامتة في قوالب الثلج مع دمها وملابسها، تنتظر من ينتشلها من صقيع الموت، ويشعل في ارواحها سخونة العودة والحياة.

تسعون يوما وعائلات الشهداء تسعى هنا وهناك، تناشد وتطالب وتصرخ، لا تريد سوى ان يكون لأبنائها جنازة واضحة في النهار، ولا تريد سوى ان يكون لهم اسماء وقبورا توضع عليها باقات ورد ، وتتلى فوقها سورة الفاتحة.

تسعون يوما وحكومة الاحتلال الاسرائيلي تمعن في هذه الجريمة المزدوجة، تعاقب الاموات بعد الموت، وتعاقب الاحياء من بعدهم عندما تترك جروحهم واحزانهم نازفة.

تسعون يوما وووالدة الشهيد تعيش حالتها المنكوبة، كأن حكومة اسرائيل لا تريد للذاكرة ان يسعفها النسيان قليلا، ولا مجال لرحمة القدر، فالشهيد لم يعد الى البيت ليجمع كتبه وملابسه وذكرياته ويودع اهله وجيرانه واصدقائه، ويترك موعدا للحياة القادمة.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، اسئلة القلق تحيط بالمراقبين والقانونيين وفقهاء حقوق الانسان، حول النوايا الاسرائيلية بإخفاء حقائق عن اعدامات وتعذيب وتشويه جرت بحق الشهداء ، وحول سرقة او استبدال اعضاء من اجسادهم في تلك العتمة والخفاء.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، ولا احد يقبل الاشتراطات الاسرائيلية المربكة حول تسليمهم لذويهم، لا أحد يقبل ان لا يكون للشهيد مشيعين وموكبا وعرسا وزفة تشارك فيه الاناشيد والامطار ورائحة الحناء.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، واكثر واكثر، فلا زالت اسرائيل تحتجز شهداء منذ عام 1967، تأسرهم في مقابر الارقام البائسة والسرية، جرفتهم سيول الامطار او ابتلعتهم الوحوش الضارية، واكثر اكثر عندما لم تتدخل اي لجنة دولية للكشف عن مصير الشهداء والمفقودين بعد ان شطبت اسرائيل حياتهم ومماتهم من الدنيا والآخرة.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، ولا زال الاسير الشهيد أنيس دولة ومنذ 34 عاما مختطفا روحا وجسدا بعد ان سقط مريضا في سجن عسقلان، لا حائط في مقبرة يتكيء عليه، ولا حفّارا يخرجه من ذلك النسيان.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، وفي فلسطين وحدها يعتقل الشهيد وتذوب آثار الجريمة هناك في الغياب، وفي فلسطين وحدها يستمر البكاء والرثاء ، ويكون التأبين مفتوحا على كل الاوقات والجهات.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، نستعد لسماع شهاداتهم عن القتل العمد والاعدام خارج نطاق القضاء، عن تركهم ينزفون حتى الموت دون اسعاف، عن ضربهم والتنكيل بهم بعد اصابتهم بالرصاص حتى لفظوا انفاسهم الاخيرة.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، فبأي قدم سندخل العام الجديد ؟ وفي اي بيت سنزرع شجرة النشيد؟، وما حولنا موت وسجون ومستوطنات وجدران وملاحقات وحواجز ورصاص وفزع اطفال وارض خنقتها اقفاص الحديد.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، الضحايا الحاملون اسماء من قتلوهم، الغائب يلاحق الحاضر، الروح تكشف وجوه المقنعين في الليل وتوقظ وجع المكان، اغنية شهيد تستعيد قدرها، تعدّل نقصانها، ترفرف لترفعها الاشجار الى السماء.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، وفي ساحة الميلاد في بيت لحم ، رأيت زيتونة حية مزروعة في جسد زيتونة ميتة، وآلاف الاولاد يولدون ويهبطون عن الغيوم فوق الكنيسة مطرا مطرا على وقع الاجراس، والشمس تضحك والصلاة.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، واكثر اكثر، الاسرى المحشورون سنين طويلة خلف قضبان السجون، عائدون جثثا او احرارا وفي الحالتين احياء، يسيرون على أقدامهم (كأن اديم الارض من هذه الاجساد)، حيث ولد المسيح بين شجرة تكاد ان تقتلع ، وحمل يكاد ان يساق الى الذبح، هي دورة ارضنا الانثى.

ان حملة الاعتقالات غير المسبوقة، شملت الاحياء والشهداء، الاطفال والنساء والجرحى، وظلت دولة الاحتلال خائفة ومصابة بهستيريا قيام التراب على قدميه مرة اخرى.

الشهر الاول يكتب الطفل: دمي يستعيد ذاكرة الاجنحة.
الشهر الثاني تكتب المرأة: لا زلن نجلس حارسات على ابواب القدس  
الشهر الثالث تكتب الملائكة : ليس لنا غير هذا النبي الذي يتقدم ، يعلو ، ويمتد في خطوات البشر.

خلال احتفالات اعياد الميلاد المجيدة، رأيت صنوبر الكنيسة يقرأه هواء المئذنة، الهواء يهب لكي يكون عزاء للشجر، حليبا يرضع طفله الجائع، وانا المرتجف من البرد صدقت ان المعجزة هنا، انها التراب نائما في ثياب الشهداء.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، وبعينيّ الاثنتين رأيتهم قادمين، يمشون مع الندى والعشب، انتفضوا من اكفانهم ، كأن شهداء فلسطين يخرجون من رحمين : التراب والحرية.

تسعون يوما في انتظار الشهداء، وكانت ترنيمة محمود درويش في صلاة منتصف الليل:
سلام على النائمين
سلام على الحالمين
ببستان فردوسهم آمنين
سلام على الصاعدين خفافا
على سلم الله

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد