ألقت أمي كعادتها التحية عليهم جميعاً أحياءً وأمواتً، وأخذت تمشي بخطواتٍ سريعةٍ غير مباليةٍ بذاك الشوك الذي يجرح قدميها ويمزق جواربها الرقيقة ... حاملةً الكعكة.. كعكة عيد الميلاد.. وعندما وصلتْ التقطتْ أنفاسَها، وابتلعت دموعها، ووضعت الكعكة فوق قبره.. بادئةً بعدِّ سنواتِ عمرِه فوق الأرض وتحت الأرض..!

..تنظر إلى القبر؛ وتتمنى لو أن نظرها يثقب التراب والرخام الذي يعلو قبره؛ فتطعمه من الكعكة التي يحبها، ويبدأ –كعادته- بلعقِ ما تبقّى من آثارها التي علقت بأصابعه.. أو ترى شيئاً من وجهه، أو أيّ شيءٍ منه؛ حتى لو رباط حذائه..

..تسع سنوات مرّت ولا زالت أمي تحتفل بعيد ميلاد أخي الشهيد "محمد" في مقبرة الشيخ رضوان وسط مدينة غزة ، محضرةً معها الكعكة ولوازم التقطيع والتوزيع على مجموعةٍ من الأطفال والأصدقاء أسمتهم بـ "أصدقاء محمد في المقبرة"..!

..أخي عندما استشهد كان عمره ثمانية عشر عاماً؛ حيث قضى في توغّلٍ بريٍّ لقوات الاحتلال الإسرائيلي في منطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة.. وقد أُصيب برصاصةٍ إسرائيليةٍ اخترقت صدره وخرجت من ظهره..

أذكرُ كيف أنّ أمّي ألقتْ بكامل جسدها على المنضدة التي ألقى والدي عليها شهادة الوفاة والتقرير الطبي الذي يوضّح سبب وفاة "محمد".. إذ قالت لنا يومها: "هذه شهادة وفاة لي قبل أن تكون لأخيكم..! قلبي ينبض خوفاً عليكم لا استمراراً للحياة..."

..وتأوّهت قائلةً: "مدخل ومخرج..!؟ يا حبيبي يا ابني، الرصاصة اخترقت جسمك مدخل ومخرج.. يارب ما تكون تألّمت يااااااااااارب"..!

في الليلة التي استشهد فيها "محمد" كنّا أنا وأمي في عرسٍ للعائلة.. كنّا ما أسعدنا في تلك اللحظات..كانت العروس جميلةً والعريس يقوم بحركاتٍ شقيّةٍ يداعب بها عروسه أمام الجميع.. وأنا وأمي نضحك ونتمازح ونُعلّق، ونبحث بين الفتيات الراقصات عن واحدةٍ تناسب "محمد" في المستقبل كزوجة.. كنّا  نبحث له عن فتاةٍ جميلةٍ يسري الدمُ في عروقها وخدودها الحُمر؛ بينما كان هو يرقد في ثلاجة الموت ودماؤه تتصفّى من جسده قطرةً قطرة .. ووجهه الطفوليّ يتجمّد ويتحوّل –بالتدريج- إلى اللون الأزرق..

كنت قد كتبت في مقالةٍ سابقةٍ كيف أنني خبأت في خزانتي آخر "بلوزة" ارتداها أخي "محمد" وكيف أن أمي ترجتنا كي نعطيها إياها ولو لثوانٍ معدودة.. وعندما أخرجناها وحملتها كانت كأنها جمعت الدنيا وما فيها بين يديها.. احتضنتها وانخرطت في نوبة بكاءٍ وعويل، وأخذت تشمّها بحرارة الشوق وتقلبها وتبحث عن عرقه فيها.. كانت تريد أن تغوص بداخلها، وتسري بروحها بين خيوطها.. تشعر وكأنه مازال حياً يرتديها..!

أمي الآن وضعت الكيس الذي غلفت به البلوزة داخل كيسٍ آخر؛ كي تحفظ الرائحة المحفوظة داخل الكيس بكيسٍ آخر.. تريد أن تجد أيّ شيءٍ مازال حياً منه حتى ولو رائحة عرقه..

الفراقُ جدُّ صعبٍ ومرير.. وأتساءل: هل كلّ أهالي الشهداء مرّوا بما مررنا به نحن من عذابٍ ووداعٍ وألمٍ وقهرٍ وحزن؟! أين ذهبوا بملابس أبنائهم الشهداء وأحذيتهم وذكرياتهم وأكلاتهم المفضلة، أين ذهبوا بأصحابهم وأصواتهم وروائحهم وحاجياتهم الخاصة وحبيباتهم وصورهم وألقابهم ومزاحهم وألوان عيونهم وبشرتهم..؟! أين ذهبوا بألعابهم وغرفهم ووسائدهم وطرقهم في المشي وأسلوبهم في الأكل والشرب، وجوالاتهم وشتائهم وصيفهم؟! أين ذهبوا بأعيادهم وأيام ميلادهم؟! أين ذهبوا بسذاجتهم وزهدهم في الحياة الدنيا..؟!

دعوني أعود بالذاكرة لأوّل عيد فطرٍ مرّ علينا بعد استشهاد "محمد".. كلنا استيقظ في الصباح متلهفاً للذهاب حاملاً باقاتٍ من الورود لزيارة قبره.. وكانت المفاجأة عندما وجدناها.. وجدناها قبلنا جميعاً.. تجلس تنتحب مطأطئةً رأسها.. وجدنا حبيبته الصغيرة الجميلة.. لم تهبْ أو تخف وحدة ووحشة القبور .. فقبره أنيسها.. وعيدها لا يكتمل إلا بالقرب منه؛ حياً كان أم ميتاً..!

أمي في هذا العيد -وكل الأعياد التي مرّت علينا بعد استشهاد "محمد"- لم تصنع الكعك كعادتها.. بل إنها عزفت عن طبخ كلّ الأكلات التي كان يحبها "محمد" كالرز وحليب والمعكرونة والفتّة.. أمي نسيت كيف تطهو هذه الوجبات أصلاً.. أقسمت بألا تصنعها بعد رحيل "محمد"..

أمي اللاجئة من مدينة يافا -تلك المدينة المتربّعة بعظمةٍ وكبرياء شامخ على شاطئ البحر المتوسط شمال فلسطين- كانت –ولازالت- تحب الحياة؛ لكن الآن بطريقةٍ مختلفة.. ألقت بمعظم أصابع الروج وأدوات الماكياج ومعظم الملابس التي تصرخ ألوانها وتنطق موديلاتها بالحياة والتفاؤل..

..تشعر بأن الفضاء والنور في العالم كثير.. والشجر الأخضر والزهور كثيرة ولا داعي لها.. وتشعر بمرارة "قصف عمر ابنها في عزّ ربيعه" عندما تتذوّق شيئاً حلواً.. بل إنها كفّت عن أن تضيق ذرعاً وخناقاً مع والدي إن أجّل شراء بعض الحاجيات الأساسية للمنزل..

صارت تحب الحياة على "استحياء".. وتحب الموت بكلّ "صراحة" كي تنعم بالحياة من جديد مع ابنها الشهيد..!

..أخي "محمد"  كان يحب تربية الأسماك والعصافير والحمام .. كان يزيد الحياة في البيت حياة.. كان يحافظ على حياة الكائنات من حوله بالرعاية والاهتمام وتقديم الطعام والشراب؛ إلا أنّ حقّه في الحياة ضاع "برصاصة"..!

ولعلّ ما يزيد من ضيق صدر أمي ويشعرها بالظلم والقهر -مثلها مثل باقي أمهات الشهداء- هو أن ابنها الشهيد تحوّل لـ "رقم" .. رقم "قديم جديد" أضيف لتعداد الشهداء الفلسطينيين.. هي لا تريد أن تصنّف جثةُ ابنها برقمٍ تقليديٍ "معروف ومحروق" هي تريد أن يُحصى ابنها بآلية ترقيمٍ إنسانيةٍ وحصريةٍ خاصةٍ بالشهداء "البني آدمين" .. طريقة تضيف لحياتهم المسلوبة حقاً مشروعاً في الحياة لغيرهم من الكائنات البشرية التي مازالت قلوبها تنبض بالحياة .. بحيث لا تصيب رصاصةٌ جديدةٌ قلباً جديداً.. أو ليس الحرص على منح الإنسان -الذي هو أهم عنصر على وجه الكرة الأرضية- الحياة أولى من منحها لأنواع من البكتيريا والفطريات والجراثيم وبعض أنواع الحيوانات والطيور؟!

"الحق في الحياة".. ثلاث كلمات تعبر عن أنّ الحياة حقٌ أساسيٌ للإنسان؛ بحيث لا يُقتل على يد إنسانٍ آخر.. ولعل مبدأ "حق الحياة" هو من أكثر المبادئ الواضحة في لائحة الحقوق الدولية فـ "لكل فردٍ الحقّ في الحياة والحرية وسلامة شخصه".

أن تعيش الإنسانية محاطة بأجواء القتل "الحديث" ورائحة الدم والرصاص.. شيءٌ يزكم الحياة.. ويبعث على الحزن والقلق، ويسلب الشعور بالأمن والطمأنينة.. بل يجعل الإنسان يحنُّ للعودة لحياة الكهف والنار التقليدية والدفاع "الفطري البسيط" عن النفس..

أفكر ملياً كيف أنني أبذل قصارى جهدي لحماية ابنتي التي لم تكمل العامين بعد من أية جرثومة على الأرض أو في الهواء، في حين أن هناك أناساً ما في مكانٍ ما ينكبّون تركيزاً على تصنيع قنابل وأسلحة جرثومية تعيث في الأرض والهواء والسماء والماء دماراً وقتلاً وتشويهاً للحاضر والمستقبل..

أن أسمع (بينما أحتضن طفلتي وأحيطها بالدفء النابض داخل شرايين قلبي) بأن مدافع وصواريخ وطائرات وبوارج وقاذفات وألغام وقنابل ذكية وأخرى غبية! وأخرى ذرية وأخرى حرارية وفراغية وأخرى كيميائية.. يجعلني هذا أشعر بأنني أريد أن أبتلعها خوفاً عليها؛ فتتربع آمنةً داخل رحمي من جديد..

أنا لا أنسى منظر ذاك الشهيد الذي ألقت أمه ببدلة خطيبته البيضاء فوق نعشه.. وذاك الشهيد الذي وضعت أمه باقي سندوتش البطاطا -الذي صنعته له قبل ذهابه للمدرسة- بالقرب من جثته؛ عندما قدّموا لها ابنها ملفوفاً بكفنه ومحمولاً على نعشه لتودّعه.. وذاك الذي جُمع مفتتتاً لأمه؛ فلُملم جسدُه داخل ربطةٍ تشبه ربطة الملابس، ولم تبق سوى نظارته الطبية ودمية صغيرة كان يألفها.. وآخر.. وآخر.. وآخر.. بل آخرون..!

أرى بأنّ وراء كلّ طفلٍ شهيدٍ قصة من قصص الرجولة والطموحات والضحكات والأمنيات .. هم يرحلون وداخل كلّ جسدٍ يذهب آمالٌ عريضةٌ وبوحٌ وصمتٌ ووعدٌ وموعد..!

إنّ تفاصيل استشهاد فلسطينيٍ واحدٍ فقط جديرةٌ بأن تهزّ العالم بأسره، وتقنعه بأنّ فلسطين المحتلة بحاجة لأن تتحرر وينعم أبناؤها بالسلام و"طول ورغد العمر".. كما أن السيف المسلول على كلّ الرقاب حان الوقت لأن يعود إلى غمده.. فأمهات العالم أجمع غير "متعجّلات" لرؤية هياكل فلذات أكبادهنّ وجماجمهم وعظامهم المطحونة..!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد