تصويت البرلمان اليوناني بالإجماع هو بكل المقاييس تصويت تاريخي، إذ يندر أن يصوت برلمان بكل ما فيه من تعدّد وتنوّع وتعارض في الرؤى والمصالح بالإجماع حتى على قضايا داخلية أو وطنية ذات صفة وأولويات عُليا.
فعندما تزول الفوارق وتختفي التعارضات لكي تجمع على فلسطين فإن الأمر يتعلق هنا بقضية: هي فوق كل خلاف واختلاف وهي أعلى وأكبر من كل التناقضات والتعارضات. لو أن هذا الإجماع جاء من برلمان من عجينة وطينة البرلمانات الشكلية لأنظمة استبدادية أو دكتاتورية من النوع السائد في بعض البلدان التي مازالت بعيدة عن الديمقراطية لما كان لهذا التصويت مثل هذه الأهمية، ولما حظي هذا التصويت بالأهمية التاريخية التي يحظى به تصويت البرلمان اليوناني بالإجماع الكامل على فلسطين.
من جانب آخر فإن هذا التصويت له أهمية استثنائية موازية تتلخص في النصّ الذي احتواه.
فقد صوّت البرلمان اليوناني على نص محدد ودقيق وهو دعوة الحكومة اليونانية للاعتراف بدولة فلسطين على كامل الأرض الفلسطينية التي احتلت العام 67 وعلى أساس أن تكون هذه الدولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
هذا التطابق الكامل مع الموقف الفلسطيني وبالنص الحرفي هو تعبير آخر عن أهمية هذا الاعتراف وهو مؤشر كبير على نجاح الدبلوماسية الفلسطينية في إيصال الدعم الدولي للحقوق الفلسطينية إلى المستوى السياسي الأعلى وفي تحويل الاعتراف الدولي بفلسطين إلى اعتراف يتجاوز المواقف العامة والمبدئية نحو قرارات وتوصيات محددة وملموسة لهذه الحقوق.
صحيح أن للشعب الفلسطيني صداقة تاريخية خاصة مع الشعب اليوناني، وصحيح أن هذه العلاقة تمتد عبر التاريخ الطويل للشعبين على شواطئ المتوسط ـ بغض النظر عن دقة الرواية التاريخية حول هجرات الفلسطينيين القدماء من جزيرة كريت اليونانية ـ "والتي أعتقد أنها ليست أكثر من حالة تنقل طبيعية يبدو أنها كانت معتادة في ذلك الزمان بين شعوب المتوسط"... إلاّ أن دفئاً ما يميز المشاعر بين الشعبين.
أغلب الظن أن كنعانية الفلسطينيين من زاوية الأصل والجذور لم تمنع من متوسطيّة طابعهم الثقافي والاجتماعي الخاص. 
كما يبدو أن اقتصادهم القديم كان جزءاً عضوياً من اقتصاديات المتوسط الذي كانت اليونان في مراحل تاريخية طويلة تلعب فيها دوراً حضارياً محورياً وطاغياً إلى حد كبير.
جغرافية الجسد الفلسطيني الممتد من أعالي رأس الناقورة إلى جنوب رفح والممدد على شاطئ طويل وساحر كان "يغري" بالتنقل والترحال تماماً كما كان يغري بالتمازج الحضاري لكل شعوب هذا البحر الزاخر بالحضارة والرقيّ الإنساني.
وتكاد الحقب الفلسطينية أن ينحصر تصنيفها في الشعوب والحضارات التي هاجمت تلك الشواطئ واستولت عليها قبل أن تعود أدراجها ومنها من "استقر" على أرضها ومنها من حاول أن يخضعها ومنها من ذاب فيها وتلاشى عن خارطة التصنيفات العرقية والإثنية والسياسية على حد سواء.
المهم أنها كان تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين والأمور تعود إلى طبيعتها بقدر ما وبقدر ما هو متاح وممكن والتصويت التاريخي لبرلمان اليونان يساعدنا في فهم أبلغ الدروس في علم التاريخ وفي دورات التاريخ وفي تقلّب الحقب والحضارات.
اللافت للانتباه أن إسرائيل حتى الآن على الأقل صمتت تماماً أمام هذا الاعتراف وأمام هذا التحديد من النص.
الاعتراف وحده وبصيغة عمومية وأقل وضوحاً كان يثير إسرائيل وكان يدعو أبواقها الإعلامية للانفلات التام من كل عقال، ثم أن يأتي هذا الاعتراف بهذا الوضوح وهذا التحديد وأن لا نلحظ أية ضجة إعلامية إسرائيلية كانت معتادة ومتوقعة فإن ذلك يدعو إلى الاستغراب بل والدهشة أيضاً.
معروف أن رئيس الوزراء اليوناني كان قد أبلغ إسرائيل نيّة البرلمان اليوناني الاعتراف بدولة فلسطين وبتوصيته للحكومة بهذا الاعتراف بما في ذلك النص الذي تمت الموافقة عليه بالاجماع أول من أمس.
ربما أن اليونان غاضبة على إسرائيل بسبب عودة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى سابق عهدها، وربما إلى مراحل أكثر تقدماً مما كانت عليه، وربما أن لدى اليونان مخاوف وهواجس جراء هذه التفاهمات الإسرائيلية التركية الجديدة، خصوصاً في المجال الأمني والعسكري تحديداً، ذلك أن العلاقات الاقتصادية لم تتأثر قيد أُنملة طوال فترة "التوتر" بينهما حيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى أكثر من خمسة مليارات دولار (وهو الأمر الذي يعني أنها تعززت خلال هذه الفترة بالذات).. وربما أن مخاوف وهواجس اليونان من حصول تركيا على معدات إسرائيلية متطورة بما في ذلك بعض أنواع الأنظمة التكنولوجية المتطورة للتجسس والرقابة والتشويش الجوية والبحرية هو ما دفعها لاتخاذ الموقف وبهذه الطريقة والصيغة، إلاّ أن الصمت الإسرائيلي مازال لغزاً على كل حال.
ربما أن إسرائيل يئست من "خوض المعارك" مع البرلمانات دون طائل وربما تؤجل "المعركة" إلى الاعتراف الحكومي الرسمي كما حصل في الحملة التي شنتها على السويد، إلاّ أن الشعور الإسرائيلي بالخسارة والفشل في مواجهة النجاحات الفلسطينية يبدو أكبر مما أن تحاول إسرائيل إخفاءه أو التستر عليه.
على هذا الصعيد فإن الهوامش تضيق عليها يوماً بعد يوم، و"معركة" إسرائيل في مواجهة المجتمع الدولي أصبحت تنحسر يوماً بعد يوم، أيضاً، خصوصاً وأنها (أي إسرائيل) لم تراكم في "أتون" هذه المعارك غير الخسارات ولم تجنِ غير الفشل الذي تحول إلى بعض أنواع الفضيحة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد