ما أراه هو أن ثمة تراجعات كبيرة عن أصول الخلاف والاختلاف تجري في الساحة الفلسطينية منذ سنتين أو ربما ثلاث سنوات.
وأستطيع أن أربط ما بين الموقف من العدوان على غزة وتعدد الرؤى والمناهج حيال "التعامل" مع ما فرضه هذا العدوان وما بين تحول أو تحويل الخلاف إلى اختلاف في الساحة الوطنية البينية الداخلية آنذاك. لا أرى أنا الخلاف كان يجب أن يتحول إلى اختلاف في ضوء أن ذلك التعدد كان يهدف بالأساس إلى "عدم" تمكين حماس من المتاجرة بالعدوان لشق وحدة الصف الوطني داخل المنظمة، وكان هذا الخلاف يرمي إلى كسب الرأي العام الفلسطيني لصالح موقف وطني واحد وموحّد في مواجهة العدوان، وإلى إبقاء هذا الموقف الوطني على تماس مباشر مع مشاعر الناس وعواطفها وحرصها على صدّ العدوان وآثاره ونتائجه على حد سواء.
وكان هذا الخلاف في نهاية الأمر مجرد انعكاس طبيعي لدرجات معينة من التعددية السياسية القائمة في الساحة الفلسطينية، والتي هي امتداد لتراث طويل وعريق من هذه التعددية من جهة ولواقع معتاد في الساحة الفلسطينية من جهة أخرى. لقد تعايشت الساحة الوطنية الفلسطينية دوماً مع مثل هذه الخلافات بل تعايشت مع خلافات وافتراقات مفصلية اكبر بكثير من الخلافات حول الموقف من وسائل التعامل مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بل تجاوزت الحالة الفلسطينية دائماً هذه الخلافات باتجاه الذهاب إلى إعادة الوحدة والتلاحم وصولاً على الانسجام الكبير كما حصل في مؤتمر الجزائر وتم دائماً إيجاد قواسم مشتركة جديدة ومتجددة، بل تمر في مراحل معينة وصول "التناقضات" إلى ما هو أخطر بكثير من "خلافات" اليوم ولم تخل بعض اللحظات من صدامات عسكرية سرعان ما كان يجري تطويقها.
أما الحالات التي كان يتحول فيها الخلاف إلى اختلاف حقيقي فإنه من العدل والانصاف أن نؤكد على عدم "تسامح" الساحة الفلسطينية مع هذا النوع من الاختلاف.
وعلى سبيل المثال لم تتسامح الساحة الفلسطينية مع محاولات شق حركة فتح عبر ظاهرة (فتح الانتفاضة) كما أنها لم تتسامح مع الصاعقة عندما بدا وكأن النظام السوري في ذلك الوقت يحاول "العبث" في الساحة الوطنية، بل وحتى لم يتم التسامح مع منظمة فلسطين العربية (التي كانت تابعة لمصر ما بعد هزيمة حزيران)، وكذلك تم التعامل مع محاولات العراق لشق وحدة الصف الوطني.
بمعنى آخر تعايشت الساحة الفلسطينية مع خلافاتها ولكنها لم تتعايش مع شق وحدة الموقف الوطني، وخصوصاً عندما كان الأمر يهدد استقلالية القرار الوطني مع محاولات رهن أو ارتهان هذا القرار لجهات خارجية.
ظاهرة الاختلاف ـ كما أرى ـ عادت إلى الساحة الفلسطينية بعد انقلاب حركة حماس على الشرعية الوطنية، وهي تصنف في عداد الاختلاف وليس الخلاف لأنها من خارج إطار المنظمة (وهي الجامع الوطني العام) ولأنها في الواقع أرادت أن ترهن القرار الوطني لجماعة الإخوان المسلمين، وما زالت تدور حتى اليوم في فلك هذا المحور والدائرة، وهي حتى يومنا هذا تقيم علاقاتها مع بعض قوى الإقليم على أساس اختطاف القرار الوطني والمساومة به أو عليه لدى هذه القوى.
الغريب في أمرنا منذ عدة سنوات ودون أن يكون لدينا مراجعة حقيقية لهذه التجربة الفلسطينية الثرية والفريدة في الواقع العربي، أصبحنا نخلط الأوراق ولم نعد نعرف كيف نفرق بين الخلاف والاختلاف وأصول التعامل معهما. فمن جهة كانت محاولة "إعادة" اكتشاف حركة حماس مسألة خاطئة وما كان يجب أن يسمح بتفسير هذا الاكتشاف وكأنه اختلاف يقتضي القطع ولا القطيعة، وبالمقابل ما كان يجب أن يسمح لحركة حماس باستغلال الخلاف وصولاً إلى الحساسية التي وصلت إليها الأمور آنذاك، وكان يجب أن يفصل أصحاب وجهة النظر التي تنادي "بإحراج" حركة حماس ووضعها تحت الاختيارات، ان يفهموا بأن سياستهم آنذاك كانت ستثير ما أثارته نظراً لتخوف القيادة الرسمية من "مشروع" بديل أو مواز أو معطل لبرنامج وخطط هذه القيادة.
الدليل على صحة ذلك أن الخلاف حول التوجه الى مجلس الأمن أولاً أو الجمعية العامة قد خلق شرخاً على هذا الصعيد، كما أن الخلاف على الموقف من السياسة الإعلامية حيال العدوان أثار نفس الشرخ والتحسس والتوجس.
إذن، هناك محاولات لتحويل الخلاف إلى اختلاف من قبل الأوساط الرسمية من السلطة والمنظمة، وهناك عدم إدراك لحساسية المسألة من قبل الأطراف التي تمثل الحالة المقابلة.
لقد دخلت الساحة الوطنية في السنوات الأخيرة حالة غير صحية على الاطلاق من تحويل الخلافات إلى اختلافات وهو الأمر الذي بدأ يعكس بنفسه على تراجعات كبيرة في أصول العلاقات الوطنية والديمقراطية التي اعتمدنا عليها، وعلينا جميعاً أن ندرك مخاطر هذا الانزلاق نحو درجة من التنافس غير النزيه على أصول الخلاف والاختلاف، وقد نصل إلى مرحلة يصبح فيه الاتهام والاتهام المقابل هو اللغة الوحيدة السائدة في الصف الوطني.
فكيف لنا أن نفسر محاولات التعايش مع حركة حماس وليس لدينا القدرة على تجاوز خلافات هي أساساً ليست اختلافات كالتي لنا جميعاً مع حركة حماس أو هكذا يفترض؟!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد